فهز صاحبه رأسه محذرا وقال: يقتلونك ولو في المحكمة!
فتساءل في حيرة: والعمل؟ - اختف! - طول العمر؟
فرفع الحارس رأسه إلى السماء دون كلام، فقال أبو الخير: الولية والبنت في القرية تحت رحمة الجبار بلا معين! - فكر في حياتك!
فتنهد في كرب شديد وتساءل: أين القانون؟
فضحك الحارس ضحكة جافة، وقال: تجده نائما في بطن بطيخة!
في اليوم التالي جاءه الحارس بأخبار. قال له إنه ذاع في القرية أن أبو الخير اغتصب البنت وقتلها ثم هرب. شهد بهذا السيد نفسه، والجميع يصدقونه دون مناقشة. وأهل الضحية في حريق من الحزن، كذلك الأهل والجيران. ورجال كثيرون توعدوا بالانتقام. والحكومة تجري التحقيق وتسمع أقوال الشاهد الوحيد. وحق الخزي على امرأته وابنته وأخرسهما الحزن. - جريمتي أنني رأيت جريمة الآخر! - لم نمت في المخزن؟ - أمر ربنا!
فرمقه بأسف قائلا: اختف!
ومر بالحارس رجال من رجال السيد يبحثون عن أبو الخير. ومر به رجال من أهل البنت الضحية. سمع أبو الخير من مخبئه أصوات المجدين في البحث عنه، ولمح وجوههم الكالحة ونذر الموت المتطايرة من محاجرهم. - سأهرب. - نعم، ربنا معك! - ليس معي مليم!
فقال وهو يداري خجله بغض البصر: ولا أنا!
وانطلق أبو الخير عند جثوم الظلام بلا هدف ولا معين. لم يكن جاوز طيلة حياته السوق بحال، ولا يعرف عن الدنيا شيئا. وتجنب القرى القريبة لعلمه بأنها في متناول الجبار، إلا أن الحكومة نفسها تجد الآن في أثره. ولا سبيل إلى تبرئة نفسه، وسيكون دائما عرضة في هذه البقاع، وفي أي لحظة إلى رصاصة تنطلق فتقضي عليه. وظلام هذا الليل لن يمتد إلى الأبد، سرعان ما ينقشع عن ضوء النهار، ويبدو هو للأعين كعقرب تستبق إليها الهراوات والنعال، ومن لامرأته وابنته؟ من لهما في جو ينضح بالمقت والرغبة في الانتقام؟ وجد في السير على غير هدى. ووجد الأشياء تعلن في حذر عن ذواتها، فوضحت نوعا ما أشجار الصفصاف والنخيل، والزرع المنتشر تتخلله المماشي، وترعة ابتسم ماؤها وتلألأت أطراف من موجاته، فخرج من ذهوله متعجبا، والتفت لخاطر برق في رأسه المكدود نحو الأفق إلى يساره، فرأى القمر صاعدا فوق الأرض بأذرع متجليا كأكبر ما يرى، وأسهم الضياء تنطلق منه وانية. ضايقه على غير عادة القمر، وجعل يلتفت إلى الوراء كلما أوغل في السير. وترامى نباح من أطراف الصمت الثقيل، ومرة تعالى عواء فارتعدت فرائصه. أين منه مصر الكبيرة، ليذوب في زحمتها ويجد مخبأ ولقمة؟ كم يلزم من الوقت للقدم المتورمة لتقطع ما يقطعه القطار السريع في أربع ساعات؟ وانطلقت زعقة غفير كصفير القاطرة فتوقف لها قلبه. لعله يعترض سبيله متسائلا عن هويته ومذهبه. وخاف أن يتقدم خطوة. ومال نحو شجرة جميز فلبد عند أصلها كأنه نتوء في سحائها. لن يتعرض له غفير في ضوء النهار، ولكن من للمرأة والبنت؟! يمكن أن يبلغ بعد العذاب مصر، ولكن من يحمي المرأة والبنت؟ وكيف تطيب الحياة لمن يعيش مطاردا إلى الأبد محروق القلب على امرأته وابنته؟ ولبث يحملق في الفضاء، أفكاره تتلاطم، والساعات تمر، حتى سرقه النوم. واستيقظ وهو يحلم بأنه يتهاوى من قمة جبل. فتح عينيه فرأى الأقدام الغليظة تضرب من حوله حلقة محكمة.
صفحة غير معروفة