وجعلت أنظر في الخريطة بحيرة. ودق جرس التليفون فرفع السماعة وهو يقول لي بأريحية: خذها، ونحن في خدمتك.
غادرته وأنا أطوي الخريطة، ورحت أقطع الحي، من ميدان إلى شارع إلى عطفة، وأنا أسأل من آنس فيه إلماما بالمكان، حتى قال لي كواء بلدي: اذهب إلى حسنين الخطاط بأم الغلام؛ فإنه كان صديقه.
وذهبت إلى أم الغلام. وجدت عم حسنين يعمل في دكان ضيق عميق الطول، مليء باللوحات وحقاق الألوان، وتنبعث من أركانه رائحة غريبة هي خليط من رائحة الغراء والعطر. وكان عم حسنين متربعا فوق فروة أمام لوحة مسنودة إلى الجدار قد نقش في وسطها باللون الفضي اسم الله. وكان مكبا على زخرفة الحروف بعناية تستحق الاحترام، فوقفت وراءه متحرجا من إزعاجه أو قطع فيض الإلهام عن يده المنسجمة في ملكوتها، وطال انتظاري وإشفاقي، وإذا به يتساءل في لطف بلدي: نعم!
أدركت أنه كان على علم بوجودي فعرفته بنفسي، وقلت: قيل لي إن الشيخ زعبلاوي صديقك، وأنا أبحث عنه.
كفت يده عن العمل، وتفحصني متعجبا، ثم قال بنبرة تنهدية: زعبلاوي؟! يا سبحان الله!
فتساءلت بلهفة: هو صديقك، أليس كذلك؟ - كان يا ما كان، الرجل اللغز! يقبل عليك حتى يظنوه قريبك، ويختفي فكأنه ما كان، لكن لا لوم على الأولياء!
انطفأ الأمل كما ينطفئ المصباح بغتة لانقطاع التيار، وقال الرجل: لازمني عهدا حتى خلت أنني أرسمه فيما أرسم، ولكن أين هو اليوم؟ - لعله ما زال حيا! - هو حي بلا ريب، وكان له ذوق لا يعلى عليه، وبفضله صنعت أجمل لوحاتي!
فقلت بصوت يكاد يطمسه رماد الأمل: يعلم الله أنني في مسيس الحاجة إليه، وأنت أدرى بالمتاعب التي يقصد من أجلها! - نعم .. نعم، شفاك الله، والحق أنه رجل كما يقال عنه وأكثر.
ثم وهو يبتسم مشرقا: وفي وجهه جمال لا يمكن أن ينسى، ولكن أين هو؟!
واقتلعت قدمي وأنا أصافحه ثم ذهبت. ومضيت أشرق في الحي وأغرب سائلا عنه من آنس فيه طول عمر أو خبرة، حتى أخبرني بياع ترمس بأنه قابله في بيت الشيخ جاد الملحن المعروف منذ زمن وجيز. وذهبت إلى بيت الموسيقار بالتمبكشية. ووجدته في حجرة بلدية، أنيقة، تتردد في جنباتها أنفاس التاريخ، وكان يجلس على كنبة، وعوده الشهير منطرح إلى جانبه منطويا على أجمل أنغام عصرنا، على حين ورد من الداخل صوت هاون ولغط صغار. وحالما سلمت وقدمت نفسي أشعرني بحلاوة استقباله وانطلاقه على سجيته بأنني في بيتي. ولم يسألني عما جاء بي سواء بالكلام أو الإشارة. ولم أشعر بأنه يداري السؤال أو يضمره حتى عجبت للطفه وإنسانيته. وقلت مستبشرا خيرا: يا شيخ جاد، أنا من عشاق فنك، طالما طربت له في أفواه المطربات والمطربين.
صفحة غير معروفة