وتناول من جيبه مظروفا صغيرا، ووضعه على المكتب أمام الأستاذ محمد، وكان هذا يعرفه كما يعرف وجه طفله، فأخذه وهو يبتسم قائلا: ألف شكر يا إكسلانس، ربنا ما يحرمني منك. - ولا منك يا أستاذ محمد!
وقاما في وقت واحد فتصافحا، ثم ذهب. وشملته حركة سريعة، أشبه بالاندفاع، هي طابعه في السير، وكان عليه أن يذهب إلى المجلة دون إبطاء. ولم يكن في ذهنه إلا المشكلات الخاصة بالمجلة التي عليه أن يحلها قبل هبوط الليل. في زمن بعيد نسبيا كان يفكر طويلا بعد تناول مثل هذا المظروف. على الأقل كان يقارن بدهشة بين حاله حين تخرجه في الجامعة والتحاقه بالعمل مخمورا بأسمى الآمال، وبين حاله التي صار إليها حين لم يعد لشيء قيمة إلا السيارة وجهاز التكييف، وتعليم الأولاد في الكلية الأمريكية. •••
وقصدت الفتاة الشقة رقم 33 بالدور الخامس. سارت بقامتها الرشيقة، ووجهها الجميل، وعينيها اللوزيتين اللتين تشعان حيوية، حتى انتهت إلى مكتب السكرتير، فقام بحماس وصافحها بحرارة، ثم أشار إليها بالجلوس وهو يقول: المدير مشغول، خمس دقائق، كيف حالك؟
جلست وهي تبتسم في تحفظ ماكر، وتشاغلت عن الشاب المحدق فيها بالنظر إلى الحجرة البديعة المعدة لاستقبال أهل الأهمية والمال. وعلق بصرها بلوحة من الفن الحديث لم تميز بوضوح من أشيائها إلا تفاحة استقرت في مكان غمازتها عين بشرية هالعة، على حين اكتنفتها خطوط وألوان فاقعة وأجزاء متناثرة من أعضاء الجسم الإنساني، وبصفة عامة خيل إليها أنها ترى ركن حجرة -كانت مأهولة بالبشر - أثر زلزال عنيف مدمر. استردت عينيها وهي ترفع حاجبيها المقرونين في شبه احتجاج ساخر، فرأت الشاب وهو يشير إلى الكرسي الجالس عليه، ويقول باسما: ستجلسين هنا بعد أيام. - متى تسافر إلى ألمانيا؟ - في نهاية الأسبوع على الأكثر، ولكن متى أراك ثانية؟
ودق جرس التليفون الخاص بالمدير، فرفع الشاب السماعة لحظة، ثم أعادها ومضى إلى الحجرة، وما لبث أن خرج مصحوبا بخواجا طاعن في السن، فأوصله حتى الباب. وعاد إلى الفتاة وهو يقول: تفضلي يا آنسة زينب!
وهي تمر أمامه في طريقها إلى الحجرة، همس في أذنها: أظن من الممكن أن نتقابل الليلة؟
فظلت تنظر فيما أمامها، وإن وشى عارضها بابتسامة، حتى غيبها باب الحجرة. تقدم المدير ليلاقيها في المنتصف، بقامته المترهلة، وصلعته الوضيئة، وانحنى نحوها بوجهه المجدور، يتقدمه أنف كالكف المبسوطة بين هالتين من سوالف بيضاء، فتناول يدها، وضغط عليها بحنان مريب، ومضى بها حتى أجلسها على المقعد الوثير أمام المكتب، ثم جلس على كرسيه، وعيناه لا تتحولان عن وجهها: خطوة عزيزة يا زوزو، كيف حال والدتك وأخواتك؟ - عال. متشكرة جدا يا فندم!
وكانت رغم مطاوعة الأمور تجد قلقا، وإحساسا كأنه التقزز، لكنها ابتسمت إلى عينيه المكللتين بحاجبين أشيبين، عينيه الحادتين رغم الكبر، وقاومت النفور المستقر في شعورها، والذي جاء معها من الطريق، بل من البيت، رغم محاولاتها القوية في مغالبته بالأحلام الخيالية المتألقة كالماس. - ستشرفين السكرتارية في نهاية الأسبوع.
اتسعت الابتسامة المغتصبة من شفتيها، فتحركت قسمات الرجل في نشوة كالطرب، وقال بحرارة: أنت ضوء الحياة يتسلل إلى قلبي المظلم من جديد، وسوف ينعكس على حياتك بالسعادة.
ذكرها هذا بما رددته جدران بيتها الصماء في غير حياء، وبأمها التي تبدو أحيانا كنمرة متوثبة، وإن تكن تنقلب قطة مستكينة عندما تندى جفونها بدمعة ما. وغمغمت في حرج: أرجو أن تجدني عند حسن ظنك!
صفحة غير معروفة