ونوقشت المسألة في الصحف على نطاق واسع في مقالات مسهبة بأقلام علماء النفس ورجال الدين. أما العباسية فقد اجتاحها الذعر، وأمست تقفر مع المغرب من سكانها سواء في المقاهي أو في الطرق، وبات كل وكأنه ينتظر دوره. وبلغت الأزمة ذروتها عندما وجدت طفلة بمدرسة البنات الابتدائية مختنقة في دورة المياه.
وتابعت الأحداث بصورة مرعبة، وتلقاها الناس بذهول. لم يعد أحد يهتم بالتفاصيل المملة عن التحقيق والبحث وآراء الباحثين في الصحف. انحصر التفكير في الخطر الداهم الذي يزحف غير مكترث لشيء، ولا يفرق بين شيخ وشاب، وغني وفقير، رجل وامرأة، صحيح ومريض، في بيت أو في الترام أو في الطريق. مجنون؟ .. وباء؟ .. سلاح سري؟ .. خرافة من الخرافات؟! وغشي الحزن الحي شبه المهجور، وأنهكه الذعر، وأغلقت البيوت أبوابها ونوافذها، ولم يعد لأحد من حديث غير الموت.
وكان محسن عبد الباري يتجول في الحي كالمجنون، يتفقد الشرطة والمخبرين، ويتفحص الوجوه والأماكن، ومضى في يأس تام. ويناجي يأسه طويلا، وهزيمته المريرة، ويود لو يقدم عنقه إلى المجرم شرط أن يعفي الناس من حبله الجهنمي. وزار مستشفى الولادة حيث ترقد زوجته. جلس إلى جانب فراشها قليلا وهو يرنو إليها وإلى الوليد، مفتر الثغر عن ابتسامة. ابتسامة لأول مرة منذ عهد غير قصير، ثم لثم جبينها وذهب. عاد إلى الدنيا التي يود ألا يراه فيها أحد، ووجد ما يشبه الدوار. الحياة التي يقضي عليها حبل مجهول فتصبح لا شيء. لكنها شيء بلا ريب وشيء ثمين، الحب والشعر والوليد. الآمال التي لا حد لجمالها. الوجود في الحياة .. مجرد الوجود في الحياة. أهناك خطأ يجب أن يصلح؟ ومتى يصلح؟ واشتد الدوار كما يحدث عند يقظة مفاجأة عقب نوم عميق.
ونمت أنباء إلى مأمور القسم بأنه تقرر نقل الضابط محسن عبد الباري، وإحلال آخر محله. استاء المأمور استياء شديدا، ومضى من فوره إلى حجرة الضابط الذي يقدره خير قدره. رآه مستلقي الرأس على المكتب كالنائم، فاقترب منه، وهو يقول بلطف: محسن ...
ناداه فلم يرد، وكرر النداء ولكنه لم يرد، هزه ليوقظه فمال رأسه ميلة غريبة. عند ذاك لمح المأمور نقطة دم فوق السومان. نظر نحو زميله بفزع فرأى أثر الحبل الجهنمي حول العنق، وزلزل القسم ومن فيه!
وحدثت سلسلة اجتماعات خطيرة في المحافظة، واتخذت قرارات هامة وعاجلة. واستدعى المدير العام جميع معاونيه وقال لهم بقوة وحماس: سنعلن حربا لا هوادة فيها، حتى يقبض على المجرم!
وتفكر قليلا ثم استطرد: هنالك شيء لا يقل خطورة عن المجرم نفسه، وهو الذعر الذي اجتاح الناس. - نعم يا أفندم! - يجب أن تسير الحياة سيرتها المألوفة، وأن يعود الناس إلى الإحساس الطيب بالحياة.
وتجلى التساؤل في الأعين المستطلعة فقال المدير: لن تنشر كلمة واحدة عن الموضوع في الصحف.
وآنس من الأعين فتورا، فقال: الحق أن الخبر يختفي من الدنيا إذا اختفى من الصحف.
وقلب عينيه في الوجوه ثم قال: لن يدري أحد بشيء ولا سكان العباسية أنفسهم.
صفحة غير معروفة