وذات يوم دعي الشيخ عبد ربه بإشارة تليفونية إلى مقابلة المراقب العام للشئون الدينية . وقيل له إنها دعوى عامة للأئمة. ولم يكن ذلك بالأمر غير المألوف وخاصة للظروف التي سبقت الدعوة. ومع ذلك تساءل الرجل عما وراء الدعوة بشيء من القلق. كيف لا والمراقب شخصية خطيرة، تستمد خطورتها من قرابة لموظف كبير ملعون الاسم على كل لسان؟ موظف يجيء بالوزراء ويذهب بهم، ويعبث بكافة المقدسات الشعبية. سيكونون بين يديه خير ممثلين للضياع، وستذروهم رياح الغضب لأقل هفوة. وبسمل الشيخ، وتأهب للاجتماع بخير ما لديه، فارتدى جبة سوداء وقفطانا شبه جديد، وقلوظ العمامة، ثم ذهب متوكلا على الله. وجد الطرقة أمام مكتب المراقب شديدة الزحام، كأنها على حد تعبيره يوم الحشر. وجعل الأئمة يتبادلون الخواطر، ويتساءلون عما وراء الاجتماع من أمور. ففتح الباب الكبير، وأذن لهم بالدخول فدخلوا تباعا إلى الحجرة الواسعة حتى اكتظت بهم. واستقبلهم المراقب بوجه وقور يشع رهبة. استمع كالكاره إلى مقطوعات المديح التي انهالت عليه وهو يداري ابتسامة غامضة. ثم ساد الصمت واشتد التطلع على حين أخذ هو يقلب عينيه في الوجوه، وحياهم تحية مقتضبة. وأعلن ثقته في أنهم سيكونون عند حسن الظن بهم. وأشار إلى الصورة المعلقة فوق رأسه وقال: واجبنا نحوه ونحو أسرته العلية هو ما دعا إلى هذا الاجتماع.
انقبضت صدور كثيرة دون أن يزايل البشر وجوه أصحابها. وقال المراقب: إن العلاقة الوطيدة التي تربطكم به فوق الكلام، إنها مودة تاريخية متبادلة.
أشرقت الوجوه بالتأييد؛ لتداري توعك القلوب، وواصل الرجل الحديث قائلا: وحيال الأزمة التي تجتاح البلاد يطالبكم الإخلاص بالعمل.
اشتد اضطراب القلوب في مسرحها الخفي: بصروا الشعب بالحقائق! اهتكوا أستار الدجالين ومثيري الشغب، كي يستقر الأمر لصاحب الأمر.
وصال المراقب وجال مستنفدا هذه المعاني، ثم تساءل وهو يتفحص الوجوه إن كان ثمة ملاحظات يراد أن تقال! غشي المكان الصمت حتى انبرى إمام جريء، فأكد أن المراقب أفصح عن مكنون القلوب، وأنه لولا الخوف من خرق التعليمات لسارعوا من أنفسهم إلى ما دعاهم إليه من واجب! وانجاب القلق عن الشيخ عبد ربه مذ بدأ المراقب حديثه. أدرك لتوه أنهم لم يدعوا لأي نوع من المحاسبة أو التحقيق، بل أن السلطة تسعى إليهم هذه المرة باسطة يدها. ومن يدري؟ فلعله يعقب ذلك إجراء جدي لتحسين حالهم فيما يتعلق بالمرتبات والمعاشات، غير أنه سرعان ما ارتد إلى القلق كما ترتد الموجة المنبسطة على الساحل الرملي الصافي إلى الزبد. أدرك بوضوح ما يراد بهم، وما سوف يجد نفسه مضطرا إلى قوله في خطبة الجمعة مما يأباه ضميره ويمقته الناس. ولم يشك في أن الكثيرين يشاركونه مشاعره ويعانون أزمته، ولكن السبيل فيما يبدو مسدود في وجوه الجميع. وعاد إلى الجامع وهو يعمل فكره في همومه الجديدة.
وكان شلضم البرمجي المعروف بالحي مجتمعا بأعوانه في خمارة «أهلا وسهلا» على مبعدة أمتار من الجامع. بدا غاضبا كالنار، وكلما شرب قدحا من النبيذ الأسود ازدادت النار اشتعالا. وقال بصوت كالخوار: البنت نبوية المجنونة تحب الولد الرقيع حسان، لا شك عندي في ذلك.
فقال له صاحب يبغي تهدئته: لعله زبون، مجرد زبون لا أكثر ولا أقل.
فدق شلضم الترابيزة بقبضة من حديد تناثر لها الترمس والفول السوداني، وقال بوحشية: لا، إنه يأخذ ولا يعطي، أعرف ذلك كما أعرف أن طعنة خنجري قاتلة، وهو لا يدفع مليما واحدا، بينما يتلقى الهدايا أشكالا وأنواعا!
فأعلنت الوجوه التقزز والازدراء، وأفصحت الأعين المخمورة عن التأهب والامتثال فقال: الرقيع يجيء عادة حينما ترقص الأفعى، انتظروا مجيئه، ثم اشتبكوا في معركة، وعلي الباقي.
وجرعوا الأقداح وأعينهم تعكس شر النوايا.
صفحة غير معروفة