والغريب أن هذه الخواطر المضطربة كلها لم تفسد من أمري شيئا، ولم تغير من شكلي ولا من نظام حياتي الذي ألفه أهل الدار قليلا ولا كثيرا، إنما كنت أصبح وأمسي، وأذهب وأجيء، وأعمل وأكسل، وأنشط وأفتر، كما رآني أهل الدار من قبل، بل خيرا مما تعودوا أن يروني في الأيام الأخيرة، فقد ذهب عني الذهول، وفارقني الوجوم، واستقرت عيناي وهدأتا واستقامتا، فليستا تضطربان ولا تقدحان الشرر أو ما يشبه الشرر، ولا تنظران هذه النظرات التي كانت تخيف مني وتثير في النفوس من حولي شكا وريبا وإشفاقا، عدت إلى هدوء غير مألوف، وانطلق لساني بالحديث، بل تردد الابتسام على شفتي، وأخذ الإشراق يترقرق في وجهي من حين إلى حين، حتى لم يشك أحد في أن هذا الفرح الطارئ قد شفاني مما كنت أجد، ورد إلي ما كان قد فارقني من اعتدال المزاج.
ثم نصبح وإذا الزائرون قد أقبلوا، وإذا النشاط المبتسم السعيد يملأ الدار جميعا، وإذا أنا أشارك من حولي في مظاهر ما يجدون من فرح وبهجة، وأنفرد وحدي بلوعة لا تنقضي وحزن لا تخمد ناره.
يا لقوة النساء! لقد آمنت منذ ذلك الوقت بأنها لا حد لها. يا لمكر النساء! لقد أمنت منذ ذلك الوقت بأنه لا آخر له ولا قرار، يا لقدرة النساء على الكيد وبراعتهن في التلوين ونهوضهن بأثقل الأعباء وثباتهن لأفدح الخطوب!
لقد أكبرت نفسي، بل أكبرت المرأة في نفسي حين رأيتني أضطرب في هذا التمثيل وكأني أضطرب في الحياة الواقعة لا يأخذني أحد ولا آخذ نفسي بتصنع أو تكلف أو محاولة، وإنما أنا أكذب وأنافق وأصطنع الرياء وأخفي ما أخفي وأظهر ما أظهر في سهولة ويسر، كما أتنفس وكما أفتح عيني وأغمضها، وكما آتي ما تدفعني الغريزة إلى أن آتي به من الحركات! ومع ذلك فبعض ما عرض لي من الخطب، وبعض ما ألم بي من الهم كان خليقا أن يحول بيني وبين الحياة فضلا عن الحياة الهادئة المطمئنة، فضلا عن هذه الحياة المضاعفة التي يملؤها الكذب ويجري فيها من الرياء كما يجري الماء في الغصن الرطب.
الفصل السابع عشر
وانتهى النبأ إلى خديجة، كما تنتهي هذه الأنباء إلى الفتيات من بنات الطبقات الوسطى، ظاهرا خفيا، وواضحا غامضا، يلقى إليها ويستر عنها، تنبأ به وترد عنه، فتبتهج له نفسها وتستحي مع ذلك من أن تتحدث فيه، ويمتلئ له قلبها غبطة وسرورا، ويفرض عليها الأدب مع ذلك أن تتكلف الكآبة والحزن كلما ذكر لها، وأن تعرض بوجهها إعراضا كلما هم أحد أن يشير إليه من قريب أو بعيد، وأن تفر منه فرارا إذا كان الحديث فيه إليها صريحا جليا، على أن صديقتي وإن تكلفت من ذلك ما يتكلفه أمثالها مع من كان حولها من أهل الدار، قد آثرتني بما كانت تؤثرني به في كل شيء من هذه الصراحة الساذجة الحلوة! فلم تخف علي ما كان يملأ قلبها من فرح وغبطة، وما كان يغشى نفسها من قلق وإشفاق، وما أكثر ما تحدثت إلي وما أكثر ما تحدثت إليها في أمر الخطبة والزواج، وفيما يحيط بالخطبة والزواج من هذه الأمور التي لا تحصى ولا تستقصى! وما أكثر ما تحدثنا عن خطيبها المهندس وعما نعرف وما لا نعرف من صفاته وأخلاقه وأسرته وثروته! وما أكثر ما أغرقنا في الأمل ومضينا مع الخيال! وما أكثر ما فصلنا الأمور تفصيلا، وأطلنا الوقوف عند الدقائق والصغائر من الأمر، فتحدثنا عن الثياب التي ستشترى، وعن الحلي وعن الأثاث، وأقمنا القصور وأتقنا إقامتها إتقانا!
وأنا في هذا كله أجاري صديقتي مجاراة يسيرة لا أتكلف فيها ولا أحاول، حتى لم تشك لحظة في أني أشاركها في أمر الخطبة والزواج كما كنت أشاركها قديما في أمر اللعب، وكما كنت أشاركها إلى أمس في الدرس والقراءة والاستظهار، بل نحن نتحدث فيما سيكون غدا أو بعد غد حين يتم هذا الأمر، وحين تستقر خديجة في دارها وتصبح ربة بيت، ونتحدث في الدرس الذي لا بد من أن نمضي فيه، وفي القراءة التي لا نستطيع أن ننصرف عنها؛ ونرتب أمرنا على أني سأنتقل مع خديجة إلى حيث تكون، وسأشاركها في حياتها مهما تكن الظروف، وما الذي يمنع من ذلك وما دخلت هذه الدار إلا لها، وما عملت في هذه الدار إلا معها، وما استطاعت في يوم من الأيام أن تقبل شركة أو ترضى من أهلها أن يكلفوني بما لا يتصل بها من الأمر، كنت لها طفلة وكنت لها فتاة، ويجب أن أكون لها حين تصبح زوجا وربة بيت.
نعم! ما أكثر ما تحدثنا في هذا كله وأنفقنا فيه الساعات أثناء النهار حين كان من حولنا يضطربون فيما يضطرب فيه أهل الدار حين تتهيأ لإقامة الأفراح، وأنفقنا فيه الساعات أثناء الليل حين كان كل شيء من حولنا يسكن هذا السكون العميق الذي تمتاز به ليالي الريف! ولكن نفسي في هذه الساعات كلها لم تكن هادئة ولا مطمئنة، وإنما كانت ثائرة جامحة، وكنت كثيرا ما أكف عن الحديث لأفكر في هذا الشخص الغريب الذي يحتوي نفسين متناقضتين أشد التناقض: نفسا تبتهج وأخرى تبتئس، نفسا تعد وأخرى توعد، نفسا تمضي في الحديث بما يسر ويضر وأخرى تمضي في تدبير ما يحزن وينفع.
وتنقضي الأيام الأولى، ويكون اللقاء ويكون التزاور، ويكون الامتحان لخديجة بالنظر والحديث، ويدنو كل شيء من غايته، ويستحيل الجو إلى الوضوح والجلاء، وتنفس أهل الدارين في جو كله سرور وغبطة وأمل ورجاء في غد.
ويدنو أهل الدارين من هذا اليوم الذي تتكشف الأمور فيه عن نفسها، وتصبح الخطبة فيه أمرا واقعا يعرفه كل الناس، وأنا مؤثرة للصمت آخذة فيما يأخذ فيه أهل الدارين من ألوان النشاط، ولكني أجدني في ساعة من ساعات النهار وقد آذنت الشمس أن تنحدر إلى مغربها، وانتشر في الجو هذا الحزن الضئيل اليسير الذي ينتشر فيه مع الأصيل فيهدئ من نشاط النفوس، ويخفف من وجيب القلوب، ويلقي على الآمال المشرقة بعض الشحوب، ويجري في الأصوات الفرحة نغمة لا تخلو من كآبة، أجدني في ساعة من هذه الساعات مقبلة على ربة البيت، حتى إذا بلغت غرفتها دخلت لا أستأذن، ثم أغلقت الباب من دوني لا أستأذن، ثم وقفت واجمة بين يدي سيدتي لا أقول شيئا، وإنما تنحدر الدموع الغزيرة على خدي، وسيدتي تنظر إلي في غير إنكار وفي غير لوم، كأنها فهمت عني ما أردت أن أقول، وكأنها قد استجابت لدعائي، فهي ترفق بي وتؤكد لي أني لن أفارق خديجة ولن يحول بيني وبينها حائل، وأني سأنتقل معها حين تنتقل، وسأسافر معها حين تسافر، وسأقيم معها حين تقيم، وأني أحسن حظا منها هي! فهي مضطرة إلى أن تفارق ابنتها، أما أنا فلن أفارق سيدتي وصديقي ...
صفحة غير معروفة