وطلولها بيد البلى نهب
فتلفتت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفت القلب
ولو أردنا أن نقول في لطف جمال الشعر وروحانيته، وعجز الألفاظ عن الإحاطة بسره، وإماطة اللثام عن مكنون سحره، لطال حبل الكلام، وحاد القلم عن الجادة، ولكنا نستطيع أن نقول في جملة قصيرة: إن جمال الشعر في نظمه وجرسه ورنينه، وفي انتفاء ألفاظه وتجانسها. وفي ترتيب هذه الألفاظ ترتيبا يبرز المعنى في أروع صورة وأبدعها، وفي اختيار الأسلوب الذي يليق بالمعنى ويلبق به. فمرة يكون إخبارا، ومرة يكون استفهاما، ومرة يكون استنكارا، ومرة يكون نفيا، ومرة يكون تعجبا. كل ذلك يكون مع المحافظة على الأسلوب العربي الصميم.
ثم في المعاني وابتكارها أو توليدها من القديم في صورة جديدة رائعة. ثم في الخيال وحسن تصويره والتزام الذوق العربي فيه. ثم في إحكام القافية والتمهيد إليها، ثم في انتقاء البحر الذي يلائم موضوع القصيد، ثم في التنقل في القصيدة في فنون شتى من القول مع المحافظة على الوحدة الشعرية، ثم في روح الشاعر وخفة ظله، وانسياقه مع الطبع. وتعمده لمس مواطن الشعور.
ولا يكون جمال الشعر دائما بالمجاز والتشبيه وضروب التزويق اللفظي. وإنما جماله في استعداده للنفاذ إلى النفس، والوصول إلى القلب على أي صورة كان. وفي أي ثوب يكون، ولأمر ما كان لبعض الشعر الجاهلي منزلته التي لا تسامى. ومحله الذي لا ينازع. ولأمر ما هوى الشعر صريعا يلهث حينما أثقله المتأخرون بنفائس الحلي وأنواع الحلل.
وقد يخلط من لا بصر له بالشعر بين تأثير الحال التي قيل فيها الشعر وتأثير الشعر نفسه، وكثيرا ما نال الشاعر تصفيق الجماهير واستحسانهم؛ لأنه يتجه إلى عاطفة فيهم سريعة الالتهاب سهلة الإثارة، وكثيرا ما يلجأ بعض الشعراء في موضوع بعيد عن عاطفة العامة إلى الاستطراد إلى ذكر ما يثير نفوسهم استجداء لصيحات الاستحسان وطلب الإعادة.
هذا دجل أدبي نعوذ بالله منه، وهذا إفساد للفن ممن يريدون الالتصاق بالفن. شأن هؤلاء شأن صغار المصورين الذين يعمدون إلى دريهمات العامة بالإكثار من الألوان الزاهية البراقة، وإن ضاع الانسجام، وقتل الفن الرفيع قتلا.
وربما كان الشعر أعصى الفنون على التعلم، وأبعدها من أن ينال بالدرس والتدريب، إنما هو شعاع يضعه الله في قلب من يشاء، وهبة يمنحها لمن يشاء، وحاسة معنوية يزيدها في خلق نفر من عباده يحسون بها ما لا يحسه كثير من الناس، فيترجمونه بيانا ساحرا، وقولا مبينا.
والشعر طريق معبدة بين عالم الأجسام وعالم الأرواح، ينقل إلى المادة الفانية نفحات الروح الخالدة، ويرسل إلى ظلمات الحياة نورا قدسيا، يبدد غيوم الغموم، ويكشف السبيل للأمل الحائر.
صفحة غير معروفة