ديوَان
الْأَحْكَام الْكُبْرَى
أَو
الْإِعْلَام بنوازل الْأَحْكَام وقطر من سير الْحُكَّام
للفقيه الْمَالِكِي الإِمَام
أبي الإصبع عِيسَى بن سهل بن عبد الله الْأَسدي الجياني ٤١٣ - ٤٨٦ هـ
تَحْقِيق
يحيي مُرَاد
دَار الحَدِيث
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[مقدمة المؤلف]
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
قال الفقيه القاضي أبو الأصبغ عيسى بن سهل ﵀:
الحمد لله الأول الآخر الظاهر العلي الواحد القاهر ذي الطول والإحسان والمنن الحسان الموجود في عدم الزمان الكائن قبل خلق المكان، خلق الإنسان وعلمه البيان أحسن كل شئ خلقًا وأحصى كل شئ عددًا وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين العادل في قضاء يقضيه المقسط في كل قدر يمضيه.
نحمده على ما هدانا إليه في طاعته وفقهنا فيه من دينه وشريعته وعلمناه من كتابه وسنة رسوله الذي اصطفاه لوحيه واجتباه لنبوءته وابتعثه لرسالته إلى جميع خلقه وتم به سالف رسله محمد صلى اله عليه وسلم وعلى الله وأزواجه وذريته أتم صلاة وأبقاها وأفضلها وأزكاها وسلم تسليمًا.
وبعد حمد الله والصلاة على رسوله المصطفى فإني بجميل صنع الله وجليل أفضاله عندي وحسن عونه أيام نظري في القضاء والأحكام ومن تقييدي أحكام غيري في القضاء والحكم جرت على يد نوازل استطلعت فيها رأي من أدركته من الشيوخ والعلماء وانفصلت لدي مسائل كاشفت عنها كبار الفقهاء إذ كانوا من أهل هذا الشأن بأرفع مكان وأعلى منزلة وأعظم رسوخًا وعلمًا ودريةً وفهمًا منها ما شافهتهم فيه، ومنها ما كاتبتهم في معانيه، وكنت قد علقت ذلك على حسب وقوعه لا على ترتيبه وتنويعه لأتذكر به متى طالعت واستظهر به متى احتججت وإن كانت أصول ذلك ففي تفريعها بيان وزيادات تقييد ما جرى به العمل، وكيفية الاستدلال في الأصول، وكثيرًا ما سمعت شيخنا أبا عبد الهل بن عتاب ﵁ يقول الفتيا صنعة، وقد قالها قبله أبو صالح أيوب بن سليمان ﵀ قال الفتيا دربة وحضرت الشورى في مجالس الحكام ما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني سليمان بن أسود وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن، ومن تفقد هذا المعنى من نفسه ممن جعله الله إمامًا لجأ إليه ويعول الناس في مسائلهم عليه وجد ذلك حقًا وألغاه ظاهرًا وصدق ووقف عليه عيانًا وعلمه خبرًا
1 / 25
والتجربة أصل في كل فن، ومعنى مفتقر إليه في العلم. ثم أني رأيت الآن ضم تلك النوازل إلى نظام وجمع تلك المسائل إلى ترسيم والتئام وجمع أشكالها بعضها إلى بعض لتكون فائدتها أمكن وأيسر ومنفعتها أقرب وأيسر وأكثر، وإن كان الذهن كليلًا والنشاط قليلًا والجسم عليلا مما أطلنا مما يشيب الوليد ويذهب الرأي السديد من بلايا ومحن تتوالى إلى الله منها المفزع والشكوى وهو حسبنا وكفى، ولكن رجوت باشتغالي بهذا بعض السكن في أوان يكون فيه الأنس للنفس، وربما ألفت إلى ذلك في شكله وجمعت معه من فرعه وأصله مما يكمل به المعنى وتكون به الفائدة معه أقوى لو لم يفد إلا معرفة نهج الكلام وسنن الكلام والحكام في مشاورة الفقهاء وكيفية المعتاد في ذلك بينهم بقرطبة حيث كان جمهور العلماء والقدوة هم والوقوف على هيبة فتوى المغنين لهم لكان أكبر مستفادًا لمن طلب في تعلمه الازدياد، لأنها طريقة لا تؤخذ إلا عنهم ولا توجد بالإتقان الذي هي عليه إلا عندهم فكيف وقد ظننته مسائل لا توجد إلا فيه ومعانين لا غنى للمستبصر فيها عنه، ولم أخله من رواية تكون حجة، ولا من تنبيه على نكتة أو غفلة بحسب الإمكان، ومعونة الرحمن الذي كل شيء بيده وهو المتفضل بتوفيقه وتسديده والمتطول بأن يجعله لوجهه وفي سبيله لا الله غيره ولا رب سواه ولا حول ولا قوة إلا به وهو حسبنا ونعم الوكيل وكان ابتدائي به يوم السبت لعشر خلون من المحرم سنة اثنين وسبعين وأربع مائة.
1 / 26
باب في القضاء والأحكام
وما يتفرد به القضاة دون غيرهم من الحكام
قال الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ (المائدة:٨) وقال ﷿: ﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتهم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا﴾ (النساء: ٥٨) وقال في غير المسلمين: ﴿فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين﴾ (المائدة:٤٢).
وقال رسول الله ﷺ: «القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة حكم جهل فخسر فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار، وحكم علم فعدل أي فجار فأهلك أموال الناس وأهلك نفسه ففي النار وحكم عدل فأحرز أموال الناس وأحرز نفسه ففي الجنة (١).
وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن أعتى الناس على الله وأبغض الناس إلى الله وأبعد الناس من الله يوم القيامة رجل ولاه الله من أمة محمد شئيًا ثم لم يعدل فيهم (٢»).
وقال طاووس اليماني: خير الناس منزلة يوم القيامة إمام مقسطٌ، وشر الناس منزلةً يوم القيامة عند الله رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله.
واعلم أن للحكام الذين تجري على أيديهم الأحكام ست خطط: أولها: القضاء، وجعلها قضاء الجماعة، والشرطة الكبرى، والشرطة الصغرى، وصاحب مظالم، وصاحب رد بما رد إليه من الأحكام، وصاحب مدينة، وصاحب سوق، وهكذا نص عليه بعض
_________
(١) الحديث أخرجه الحاكم في مستدركه ج٤، ص١٠١برقم ٧٠١٢، وقال: صحيح إلإسناد ولم يخرجاه، والترمذي ج٣، ص٦١٣برقم ١٣٢٢، والبيهقي في الكبرى ج١٠، ص١١٦، وأبو داود ج٣، ص ٢٩٩ برقم ٣٥٧٣، والنسائي في الكبرى ج٣، ص٤٦١، برقم ٥٩٢٢، وابن ماجة ج٢، ص٧٧٦ برقم ٢٣١٥.
(٢) هذا الحديث لم أعثر عليه.
1 / 27
المتأخرين من أهل قرطبة في تأليف له.
وتلخيصها: القضاة، والشرطة، والمظالم، والرد والمدينة، والسوق، وإنما كان يحكم صاحب الرد فيما استرابه القضاة وردوه عن أنفسهم، هكذا سمعت من بعض من أدركته، وصاحب السوق كان يعرف صاحب الحسبة لأن أكثر نظره إنما كان فيما يجري في الأسواق من غش وخديعة ودين وتفقد مكيال وميزان وشبهه، وقد سألت بعض من لقيته عن صاحب السوق هل يجوز أن يحكم في عيوب الدور وشبهها وأن يخاطب حكام البلاد «في الأحكام» قال: ليس ذلك له إلا أن يجعل إليه تقديمه، وقال بعض الناس خطة القضاء في أعظم الخطط قدرًا وأجلها نظرًا لاسيما إذا جمعت إليه الصلاة، وعلى القاضي مدار الأحكام وإليه النظر في جميع وجوه القضاء.
وسألت الشيخ أبا عبد الله بن عتاب عن الحكم يرفع إلى خطة القضاء هل يستأنف ما كان بين يديه من الأحكام لم يكملها بعد بالتسجيل فيها أم يصل نظره فيها بما تقدم منه في ذلك تمام الحكم قال بل يبني على ما قد مضى بين يديه من الحكومة ولا يبتريها من أولها؟ قال: وبذلك أفتيت أبا علي الحسن بن ذكوان حين ارتفع من أحكام الشرطة والسوق إلى أحكام القضاء، قلت له: بلغني أن بعضكم أفتى بابتداء النظر فيما قد جرى بعضه بين يديه في السوق ولم يكن كمل نظره فيه بعد. فقال ل: قاله من لم يحمل بقوله ولا اشتغل بخلافه، ووافقني أبو المطرف بن فرج وغيره على جوابي، وكان ابن القطان لا يستفتي حينئذ لخمول كان أدركه. وفي المدونة في كتاب المديان قلت أرأيت صاحب الشرطة وما أشبهه أيجوز حجره.
قلت: فرأيك؟ قال: القاضي أحب إلي، قال مالك: ومن أراد أن يحجر على وليه فليأت السلطان حتى يوقفه ويدار به الأسواق والمواضع والمساجد. قال ابن وهب: وسمعت مالكًا يقول فيمن أراد أن يحجر على وليه فليأت به السلطان حتى يوقفه للناس ويسمع به في مجلسه ويشهد على ذلك فمن باعه أو ابتاع منه فهو مردود (١)، وفي هذه المسألة دليل على أن فعل السفيه في بيع وغيره أنفذ عليه قبل الضرب على يديه كما روى ابن كنانة
_________
(١) انظر المدونة ج١٣، ص ٢٥٠.
1 / 28
وابن نافع وغيرهما في ذلك في نوازل عيسى، وفي كتاب الجدار بخلاف رواية ابن القاسم في سماع سحنون وسيأتي هذا الأصل في بابه إن شاء الله.
وفي كتاب القسمة قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول لا يقسم بين الأصاغر أحد إلا القاضي. وفي الواضحة خلافه. وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي زمنين في الأقضية في كتاب المغرب له: وكذلك ما كان من أحكام الأيتام من تسفيه أو إطلاق أو توكيل عليهم للنظر لهم، وكذلك الأحباس المعقبة لا يكون النظر فيها إلا للقضاة، وفي دواوينهم توضع أموال الغيب والوصايا والأنساب، وعلى هذا جرى الأمر عندنا بالأندلس وبه أفتى مشايخنا رحمنا الله وإياهم.
وفي أحكام الحبيب أحمد بن محمد بن زياد قاضي الجماعة بقرطبة – ﵀ – شورى في هذا المعنى خاطب بها الفقهاء فجاوبوه: فهمنا رحمك الله ما استفهمتنا عنه وما احتج به بعض أصحابنا من أن للقاضي حدًا للنظر في الأيتام من تسفيه وإطلاق ونظر في أموالهم والتوكيل بجمعها وحرزها، وتدوين أموالهم التي بأيدي وكلائهم وأيدي غيرهم في دواوين القضاة لا يكون لغيرهم وهو تحجير على القاضي في تضييع ذلك فالذي قال به واحتج هو كما احتج هو أن هذا من نظر القضاة حتى قال ابن القاسم في القسم على إليهم وتوضع في دواوينهم والوصايا والأنساب من هذا الباب، وأموال الغيب، ولا يجب للقاضي أن يرفع من عنده نظرًا إلى غيره من السلاطين كما يرفع غيره من السلاطين إليه حدود القضاة في القديم والحديث معروفة لا تعارض فيها ولا تكون إلى غيرهم من الحكام.
وللقاضي النظر في القليل والكثير ولا تحديد قال بذلك محمد بن عمر ابن لبابة وقال محمد بن وليد، وقال بذلك خالد بن وهب، وقال بذلك أحمد بي بيطر، وقال بذلك طاهر بن عبد العزيز، وقال بذلك سعيد بن خمي، وقال أحمد بن يحيي بن أبي عيسى: هذه الفتيا صحيحة التي لا يجب غيرها ولا نعرف سواها وإني لأرى مثل ذلك من الجراحات والترميمات وما أشبهها، وقال بذلك كله يحيى بن سليمان، وبه قال أحمد بن بقي بن مخلد.
وقال ابن لبابة: الذي أعرف وأقول به وأدركت الناس عليه من ترتيب أحكام القضاة والذي لا ينبغي لغيرهم النظر فيه الوصايا والأحباس والإطلاق والتحجير والقسم
1 / 29
والمواريث والنظر للأيتام.
قال القاضي أبو الصبغ أوردت هذه المسألة من أحكام بن زياد وإن كان فيها تكرار لأن ما ذكرناه عن أبي زمنين فيه ما يغني عنها إعلامًا بهذه الأحكام ولاسيما أولئك المفتين وبطريقة مساقيهم في فتياهم، وفي ذلك كله زيادة علم وإفادة فهم، وهذه الأحكام كان القاضي ابن زياد قد جمعها أيام نظره في القضاء وكتب أجوبة الفقهاء فيما سألهم عنه في الحكومات ومسائل الخصماء فاجتمع من ذلك نحو سبعة أجزاء عول عليها كثيرًا ممن أتى بعدهم وإليهم أشار بن أبي زمنين بقوله: جرت الفتيا من مشايخنا وسأذكر في كتابنا هذا إن شاء الله من تلك الأحكام ما يغني عما تركت عنها واختصرت من مسائلها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي المدونة قال ابن أبي القاسم في والي الإسكندرية إن قضى أو ولي قاضيًا فقضى جاز إن لم يكن جورًا بينا كقول مالك فيما قضت به ولاة المياه يجوز أن لم يكن جورًا (١). وكذلك قال في النكاح في صاحب الشرطة يضرب للعنين أجلًا جاز (٢)، وإن ضرب صاحب المياه لزوجة المفقود أجلًا وأصاب مضى، وفي الأقضية والحدود في سماع عيسى وغيره وفي الواضحة وعيرها مخاطبة بعض القضاة بعضًا وإنفاذ كتبهم إذا ثبت عند المكتوب إليه وإن انكسر طابع الكتاب أو لم يطبعه المخاطب، وفي سماع يحيي إن لم يكن قاضي الكورة موثوقًا به وفي الكورة رجال يثقهم كتب إليهم سرًا ليسألوا له عمن شهد عنده من أهل تلك الكورة فإن كتب إليهم أنه عندهم مشهورٌ معروفٌ بالصلاح أجاز شهادته وإلا تركها حتى يعدل عنده بمن يرضى.
وقال ابن وهب عن مالك لا يجاز كتاب قاض إلى قاض إلا بشاهدين أنه أشهدهما بمافيه. قال ابن القاسم في المجموعة وإن لم يكن فيه خاتمه أو كان فيه خاتمه أو كان طابعه قد انكسر. وقال ابن الماجشون: إن شهد أن هذه كتاب القاضي أمضاه. وقال أشهب: ليس هذا بشيء حتى يشهد أنه أشهدهما ولا يضر إن لم يختمه. وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: ولا ينفذ إن شهدا أن هذا كتاب القاضي أمضاه وقال أشهب
_________
(١) انظر المدونة ج١٢، ص١٤٦، التاج والإكليل ج٤، ص ١٥٦، مواهب الجليل ج٦، ص١٣٧.
(٢) انظر المدونة ج٤، ص٢٦٦.
1 / 30
مطرف وابن الماجشون ولا ينفذ إن شهدا أن الكتاب خط القاضي بيده. وقال فضل وقال ابن القاسم: إن شهدا أن هذا كتاب القاضي جازت شهادتهما ولم يلتفت إلى الطابع وهو معنى المدونة. وقال ابن نافع عن مالك كان من الأمر القديم إجازة الخواتم حتى إن كان القاضي ليكتب للرجل الكتاب إلى القاضي فلا يزيد عن ختمه فيجاز له حتى أحدث عند اتهام الناس شهادة على خاتم القاضي أنه خاتمه. قال في سماع أشهب وابن نافع وأرى أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته.
وفي كتاب ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إذا كان للقاضي في نواحي عمله رجالٌ يكتب إليهم في أمور الرعية بتنفيذ الأقضية وشبهها فلا بأس أن يقبل الكتاب يأتيه عنهم بالشاهد الواحد، وفي الثقة يجعله ذلك إليهم وبمعرفة الخاتم لقرب المسافة واستدراك ما يخشى من التعدي، وإذا افترق العملان فلابد من البينة.
وقال أصبغ: ولسحنون نحون في أمنائه بخلاف كتاب قضاة، ورأيت قضاة بشرق الأندلس يجيزون كتب بعضهم إلى بعض في الأحكام بالخاتم ومعرفة الخط، وإن لم يكتب القاضي منه بخط يده إلا العنوان لا غير، وإن كان حامله هو المكتوب له المحكوم في قضيته وينعتون حامله المكتوب له في الكتاب ويسلمونه إليه مختومًا وهو عندي مما لا يجوز العمل به ولا إنفاذه، لاسيما إذا كان حامله صاحب الحكومة.
وقد ذكر ابن حبيب عن ابن القاسم وغيره إذا كان حامل الكتاب صاحب القصة لم يجز فيما هو أخف من هذا في تحمله من عند الأمين أو الفقيه أو شبهه فكيف في نفس الحكومة وفي قاضي بلدة أخرى هذا ما لا يجوز عند أحد والقضاء به مفسوخ والله أعلم. وأما إذا تحمل الكتاب شاهدان وشهد به عند المكتوب إليه وأثنى عليه عندهما بخير وإن لم يكن تعديلا بينا أو زكى أحدهما ولم يزك الآخر أو توسم فيهما صلاح وكان الخط والختم مشهورين معروفين عند المكتوب إليه فإني أستحسن إجازة مثل هذا وانفاذه لتعذر موافقة العدول ولما جرى به العمل في صدر السلف الصالح من إجازة الخاتم والله أعلم بالصواب.
ومن هذا الأصل أن محمد بن شماخ قاضي غافق خاطب صاحب الأحكام بقرطبة محمد بن الليث بخطاب أدرج إليه فيه كتاب عيسى بن عتبة فقيه مكناسة وعقد استدعاء
1 / 31
بملك بغل نعت فيه استحقاقه عند ابن عتبة بحصن مكناسة على عين الغل وعين مستحقة، وقال ابن شماخ في خطابه إلى صاحب الأحكام: ثبت عندي كتاب الفقيه بن عتبة مستخلف قاضي الجوف المدرج طي كتابي إليه ولم يسم القاضي الذي استخلفه ولا سمى ابن عتبة ولا كناه ولا أن ثبوته عنده كان على عين البغل ومستحقه وشاور صاحب الأحكام في ذلك: فأفتى ابن عتاب وابن القطان وابن مالك أن أعمال خطاب ابن شماخ هذا واجب وأن الحكم به جائز لفضل ابن شماخ وعلمه وأن ما جرى على يديه نظره فيه محمول على الكمال ولعافية ابن عتبة، وفي اتفاقهم على هذا الجواب نظر عجب وفيه من الضعف ما فيه وقد كانوا يختلفون فيما هو أصح من هذا في النظر وما جوابهم هذا إلا مسامحة والله أعلم بها.
1 / 32
احتلال القاضي بغير عمله
في كتاب آداب القضاة لمحمد بن عبد الحكم: وإذا حج القاضي فنزل مصر أو غيرها فأتاه قوم من أهل عمله يسألونه أن يسمع بينتهم على رجل في عمله أو كان قد شهد شهود في عمله فأرادوا منه أن يكتب إلى والي العراق أو يشهد على كتابه بذلك إلى والي مكة أو يحكم لهم بحكم قد شهد عنده عليه قبل ذلك فليس له ذلك، لأنه ليس والي ذلك البلد فليس له أن يسمع من بينته فيها ولا ينظر في بينة أحد ولا يشهد عنده أحد إلا في بلده، وإن كان قد شهد عنده قوم في بلده فأراد أن يسأل عنهم حيث هو فذلك له فإما أن يسمع من بينته أو يشهد على كتابه إلى قاض ببلد آخر، أو يشهد على كتاب إلى قاضي مصر، وقد حج قاضي مصر فرجع إليه بمكة وشهد عليه بذلك شهود فلا أرى أن يقبل الشهادة ببلد غير بلده الذي ولي فيها فيما أرى والله أعلم. ألا ترى: أنه لو ولاه الخليفة ببغداد قضاء مصر وأمره بالخروج إليها لم يكن له أن يسمع من بينة أحد في دعوى على من بمصر حتى يصير إليها.
وفي كتاب منهاج القضاة لابن حبيب: وسألت أصبغ عن القاضي يبعثه الإمام إلى بعض الأمصار في شيء نابه من أمر العامة فيأتيه رجل في ذلك المصر ببينة ويسأله أن يسمع منهم ويذكر أن له حقا قبل رجل من أهل عمله وهو غائب بعمله، ويذكر أن شهوده بهذا المصر ويسأله أن يسمع منهم أيجيبه إلى ذلك ولا ترى به بأسًا؟ قال: نعم يسمع من بينته ويرفع شهادتهم ويسأله تعديلهم، وإن شاء سأل قاضي ذلك المصر عنهم فإن أخبره عنهم بعدالة اجتزئ بذلك، لأنهم من أهل عمله، ولو اجتمع الخصمان عنده بذلك المصر فأراد المخاصمة عنده في الشيء الذي يختصمان فيه في بلد ذلك القاضي الغائب عن نظره لم ينظر بينهما لأنهما حين اجتمعا في ذلك المصر قد صار أمرهما إلى قاضيه، ولو كان الحق بعمل ذلك القاضي الغائب عن عمله إلا أن يتراضيا عليه كتراضيهما بقوله من يحكم بينهما، ويلزمهما إن قضى بالحق، وبعض جوانب أصبغ في هذا مخالف لما تقدم عن محمد بن عبد الحكم.
ونزلت من هذا المعنى مسألة سألت عنها ابن عتاب شيخنا وذلك أن القاضي يحتل بغير بلده وقد كان ثبت عنده ببلده حق لرجل فسأله الذي له الحق يخاطب له في موضع احتلاله قاضي موضوع مطلوبة بما كان أثبت عنده ببلده، فقال لي: لا يجوز له ذلك.
1 / 33
قلت: فإن فعل. قال: يبطل وقد تقدم السؤال في مسألة محمد بن عبد الحكم إلا أن الجواب عنه غير بين ثم قال لي وليس يبعد أن ينفذ ذلك، قلت: فإن كان الحق الثابت عنده ببلده على من هو بموضع احتلاله فأعلم قاضي ذلك الموضع مشافهة بما ثبت عنده هل يكون لمخاطبته إياه بذلك في بلده؟ فقال: ليس لي مثله، قلت له: وما الفرق؟ فقال لي: هو في إخباره هنا بما كان ثبت عنده طالب فضول وما الذي يدعوه إلى ذلك؟ قلت له: وما يمنع من إخباره به ويشهد عند المخبر بذلك وينفذه كما يشهد عنده بما يجري في مجلسه من إقرار وإنكار ويقضي به، فقال: ليس مثله، ولكن إن أشهد هذا القاضي المخبر بذلك شاهدين في منزله وشهد بذلك عند قاضي الموضع نفذ وجاز.
قال القاضي أبو الأصبغ: ورأيت فقهاء طليطلة يجيزون إخبار القاضي المجتاز بذلك البلد قاضي البلد به وينفذ ويرونه كمخاطبته إياه.
فصل
وقال محمد بن حارث بن أسد الخشني: سميت فصول المقالات المنعقدة عند القضاة قبل السجلات وهي التي يفتتح بها الخصومات محاضر وأحدهما محضر لما لزمها في هذا الاسم عند العلماء المتقدمين، وهو مأخوذ من حضور الخصمين بين يدي القضاي واختلف في اللفظ التي يفتتح بها تلك الفصول فكتب بعضهم حضرني فلان بن فلان، لأن تلك الصحيفة عنده وفي ديوانه فكأنه مخاطب لنفسه ومذكر لها بما كان بين يديه.
وكتب بعضهم قال فلان حضرني فلان وهذا كله عندي إذا كتب بخط يده، وأما إن كتب عنه كاتبه فلا يكتب حضرني لأنه يقع حينئذ في الظاهر كناية عن الكاتب.
قال ابن الحارث: والذي جرى به رسم قضاة الجماعة بقرطبة أن يكتب الكاتب قال عند القاضي فلان بن فلان قاضي الجماعة بقرطبة فلان بن فلان إذ قام عليه خصمه فلان فادعى عليه كذا فقال فلان إنه لا يعرف شيئًا من ذلك ولا يقر به.
قال القاضي أبو الأصبغ: وقد أنكر على بعض شيوخي هذا وكان الصواب عنده قال في مجلس نظر القاضي فلان بن فلان قاضي الجماعة بقرطبة أو بموضع كذا فلان بن فلان إذ وقفه فلان بن فلان على كذا وكذا وقد كتب على فلان بن فلان كذا وكذا دينارًا دراهم أسلفه إياها ودفعها إليه وقبضها فلان منه وصارت عليه حاله، وكان ذلك من مقاله ودعواه بمحضر المطلوب فلان فأنكر ما أدعاه وقال إنه لم يسلفه شيئًا ولا له قبله
1 / 34
حق شهد عليه بذلك من سمعه منهما في شهر كذا في سنة كذا ويكتب من حضر في المجلس من الشهود شهاداتهم ويشهدون بذلك عند القاضي ويعلم على أسمائهم ويجب على القاضي إذا حضره الخصمان أن يسأل المدعي منهما عن دعواه ويفهمهما عنه فإن كانت دعواه لا يجب بها على المدعي عليه حق أعلمه بذلك، ولم يسأل المدعي عليه عن شيء وأمرها بالخروج عنه، وإن نقص من دعواه ما فيه بيان مطلبه ومغزاه أمره بتمامه، وإن أتى بإشكال أمره ببيانه فإذا صحت الدعوى يسأل المطلوب عنها فإن اقر أو أنكر نظر في ذلك بما جيب، وإن أبهم جوابه أمر بتفسيره حتى يرتفع الإشكال عنه وقيد ذلك كله عنهما في كتاب وشهد عليهما من حضر المجلس.
قال القاضي أبو الأصبغ: وسأل هذا الذي ذكره ابن حارث إذا كان شيئًا فيه طول والتباس أن ينصه الطالب في كشف مهذب الوضع يبين فيه مطلوبه على وجهه تبيينًا لا إشكال فيه محصور الصفة مستوعب التحديد إن كان ما له حدود فيوقف المطلوب حينئذ ويكشف عنه ويسأل الجواب فيه، فإذا جاوب عنه وأقر بفهمه كتب مقالة على وجهه على ألفاظه ومعانيه وقيد بالبينة على ما تقدم واتصل النظر بعد فيما بينهما على ما يجب فيه وقيد سطر الموثقون في ذلك ما فيه مقنع والكشف مفتاح الطلب والإعراب عن المذهب وفيه رفع الشغب فلا يدع الحكام أخذ الخصوم به إن شاء الله.
1 / 35
باب في المقالات والشهادة والحيازة
والوكالات وذكر الأعذار والعقلة والآجال
إذا انعقد في مجلس القاضي مقال بإقرار أو إنكار، وشهد به عنده على القائل شهود المجلس على ما ذكرنا في الباب قبل هذا أنفذ القاضي تلك المقالة على مذيعها. ولم يعذر إليه بشهادة شهودها لكونها بين يديه وعلمه بها وقطعه بتحقيقها.
قال أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم التجيي: وسقوط الأعذار في هذا إجماع من المتقدمين والمتأخرين، وكذلك ذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن العطار في وثائقه.
وأنكر ذلك أبو عبد الله محمد بن عمر بن الفخار الحافظ وقال هذا اختلاط. وقد قال معنا: إن الحاكم لا يقطع بعلمه، ولا بما يقر به عنده دون بينة ولا شهادة عدلين وإن كان بين يديه وفي مجلسه وهو يعلم أنهما شهدا عنده بحق.
فإن كان هذا هكذا فكيف أن يقضي بشهادتهما من غير أن يعذر فيهما إلى المشهود عليه؟ وقد ينكشف عند الإعذار فيهما أنهما غير عدلين؛ إذ قد يأتي المشهود عليه بما يوجب رد شهادتهما من عداوة أو فسوق وإنما لم يقض بعلمه دون بينة لأن فيه تعريض نفسه للتهم وإيقاعه لها في الظنون وقد كره رسول الله ﷺ.
قال القاضي أبو الأصبغ:
وهذا عندي القياس الصحيح المطرد لمن قال: لا يقضي القاضي بعلمه ولا بما سمع في مجلس نظره، لكن الذي قاله ابن إبراهيم وابن العطار جرى به العمل وهو عندي استحسان، ويعضده قول مطرف وابن المجشون وأصبغ في كتاب ابن حبيب أن القاضي يقضي على من أقر عنده في مجلس نظره بما سمع منه وإن لم تحضره بينة.
وقال ابن الماجشون في المجموعة، وبه أخذ أبو سعيد سحنون بن سعيد.
وقال أصبغ في كتابه وهو ظاهر قول النبي ﷺ: «إنما أن بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع منه (١)»
_________
(١) الحديث أخرجه البخاري ج٢، ص٩٥٢ برقك ٢٥٣٤، ومسلم ج٣، ص١٣٣٧ برقم ١٧١٣.
1 / 36
وقال ابن القاسم وأشهب: لا يقضي بعلمه ولا بما أقر عنده في مجلس قضائه أو في غيره لا في حد ولا غيره. وكأن معنى قول النبي ﷺ: «فاقضي له على نحو ما أسثمع عندهما»: إذا شهدا بذلك عندي.
وقال محمد بن إبراهيم بن المواز: وليس بين أصحاب مالك في هذا خلاف علمناه وقال مالك: وأحسن محمد في قوله: ليس بين أصحاب مالك فيه خلاف وصدق.
إنه لوم يعلم قول ابن الماجشون وغيره، ولم ير أيضًا ما قاله أبو إبراهيم وابن العطار ما في سماع أشهب وابن نافع عن مالك في القوم يشهدون عند القاضي ويعدلونه.
قيل لمالك: هل يقول القاضي للذي شهدوا عليه دونها فجرح؟ فقال: إن فيها لتوهينًا للشهادة، ولا أرى ذلك إذا كان عدلًا أو عدل عنده أن يفعل.
فهذا مالك قد أسقط الإعذار ههنا فيمن عدل عنده فيكف به فيمن هو عنده عدل وشهد عنده بما سمعه في مجلسه واستوى فيه علم الهود وعلمه، وإن كان هذه القولة لم يصحبها عمل.
وقال ابن نافع متصلا بها: بل يمكنه من التجريح.
ومثله لابن الماجشون في كتاب ابن حبيب، ولابن القاسم في المدونة، وفي سماع يحيى وقال سحنون في نوازله: وبه جرى العمل. وهو الذي شاهدت القضاء به بإجماع ممن أدركنا من العلماء والحمد لله ولا يجوز العدول عنه إلى سواه.
ورأيت في غير كتاب ابن العطار: إن كتب شهود مجلس القاضي شهاداتهم على مقال مقر أو منكر فيه ولم يشهدوا بها عند القاضي في ذلك المجلس ثم أدوها في المجلس نفسه الذي كان فيه المقال وكذلك لو حفظوها ولم يكتبوها ثم أدوها بعد ذلك إذا طلبوا بها وكانوا عدولًا فإنه يعذر فيها إلى من شهدوا عليه بها.
قال أبو إبراهيم: لا يعذر القاضي فيمن أعذر به على مشهود عليه من امرأة لا تخرج أو مريض لا يخرج لمرضه وشبهه ولا في الشهيدين اللذين يوجههما لحضور حيازة الشهود لما شهدوا فيه من دار أو عقار.
وسألت ابن عتاب عن ذلك فقال: لا إعذار فيمن وجه للإعذار، وأما الموجهان للحيازة فيعذر فيهما.
وقد اختلف في ذلك وسيأتي في آخر الكتاب في مسألة أبي الشر الزنديق لعنه الله
1 / 37
وجده في الإعذار وبيان إن شاء الله.
وبعد هذا بيان الإعذار في أول السفر الثاني في باب الغائب وإرجاء الحجة للغائب فيما يحكم عليه به من مسائل.
ومن هذا المعنى في أحكام ابن زياد:
شهد عندنا إسماعيل في أنه يعرف فروة من أهل الأضرار بمحمد والإساءة إليه، وأنه اضطرب الصوت عليه اضطرابًا شديدًا أن زوجة محمد إذا زالت عنه أنها زالت إلى فروة وفي شهادته أن محمدًا اشتكى إليه أن فروة استألفها بجميع نعمته، وفي شهادته أن فروة ممن يسبب الشر غليه ويعرف به. وبمثل الأفعال التي اشتكى بها محمد وهو يعرفه بعينه، وشهدت جماعة بمثل ذلك.
فأجابوا: فهمنا وفق الله القاضي وما ذكرت في قبول شاهدين منهم. والذي يجب في ذلك أن يتشدد على هذا المرمى المشهود بالشر بالحبس الطويل والنكال لما شهد عليه من الشر والمدخل القبيح بعد الإعذار إليه.
فإن ظهرت زوجة محمد ورد متاعه فنعما، وإن لم يرد شيئًا ومضى على إنكاره حلف في مقطع الحق على أنه لم يأخذ منه شيئًا ولا صار إليه منه شيء بعد طول حبسه والاستبلاغ في نكاله للريبة التى دارت عليه في الشهادات وما اتهم به مما تلصق به التهمة فيه.
قال عبد الله بن يحيى، ومحمد بن وليد، وابن لبابة، وأيوب بي سليمان.
مسألة أخرى في الأعذار:
وشهد عند القاضي ابن زياد محمد بن أيمن وابن فلان بوفاة سعيد بن يحيى وعدته ورثته، وشهد ابن حجاج والحارث وآخر بملك سعيد بن يحيى للدار حتى توفى وأورثها ورثته وحازها. وشاور في ذلك فقال: يجب الإعذار إلى موسى في ذلك فإن جاء بمدفع وجب الحكم عليه لبني سعيد، والإعذار لبني سعيد، والإعذار لبني موسى.
قال عبيد الله بن يحيى ومحمد بن عمر بن لبابة، وأيوب بن سليمان، ومحمد بن وليد، وسعد بن معاذ.
1 / 38
مسألة أخرى في تركة نظر واستئنافه:
كان رحمكم الله خالد قد شهد لهشيمة كما قد علمتم في حيازة، ثم أخرج نظرها عنا، ثم صرفه إلينا، فلم يعد خالد الشهادة. فقالت لي هشيمة: إني صادقة فقال لي: قولي للقاضي يبعث إلى بالحائز الثاني ويحضر الحيازة. فهل يجب علينا ما سألته أو لا حتى يأتي خالد ويشهد قرانا وفقك الله.
ما كتبت به فإن كان الأمير، أبقاه الله، قد أزال نظرك عنها إلى غيرك فنظر فلم يتم نظره حتى رد النظر إليك فهو كنظر مبتدأ، ولابد من أن يشهد عندك الشاهد على ما شهد، ثم تبعث لحيازة ما يحوز، وإن كان إنما زالت عنك ولم يزلها الأمير فشهادته الأولى تامةٌ، تبعث إليها شاهدًا ثانيًا يحوز معه، ثم تأتي بالحيازة فيشهد عندك. قاله ابن لبابة وغيره.
شهد شاهد بالملك وموت المالك وشهد آخر بعدة الورثة: كان أهل طليطلة يكتبون عقد الملك في هذا إذا لم يعرف شهوده الورثة: شهد من يتسمى في هذا الكتاب أنهم يعرفون الدار والأرض التي بموضع كذا أو حدها كذا ملكا لفلان بن فلان لم يفوت شيئا منها بوجه من الوجوه في علمهم إلى أن توفى، وأورث ذلك ورثته ذلك في غير ذلك الكتاب.
فأنكرته عليهم وكتبت بذلك إلى شيوخنا في قرطبة في سنة ست وخمسين وأربعمائة هل العقد هكذا صحيح والملك موصول وهم لا يعرفون الورثة إنما شهد بعدتهم غيرهم؟
فكتب إلى أبو عبد الله بن عتاب: إذا لم يعلم شهود الملك الورثة فكيف تسوغ لهم الشهادة بقولهم: وأورث ذلك ورثته ذلك في غير هذا الكتاب؟ هذا محال وحسبهم أن ينتهوا بالشهادة إلى أن توفي وأورثت ورثته فقط. فإن وجد من يشهد لورثته بالسماع فذلك زيادة بيان.
وإن لم يوجد من يشهد بغير ما تقدم - أعني: إلى أن توفي وأورثه ورثته فقد كان يختلف في الجواب فيها فيما أحسب.
والذي أقوله والله أعلم بحقيقة الصواب: إنها شهادة عاملة موجبة للحكم والمسألة التي شهد فيها ابن أيمن فوق هذا من الأصل وجواب أبو عمر أحمد بن محمد بن القطان: الشهادة تامة ولا يضرهما جهل الشهود بعدة الورثة إذا شهد بذلك غيرهم.
1 / 39
وجواب أبو مروان عبد الله بن محمد بن مالك شهادتهم بالموت وبالملك موصلا إلى موته فقط لأنهم لا يعرفون الورثة مع شهادة آخرين لا يعرفون الموت ويعرفون الورثة شهادة قائمة وأمر تام، إنما يوصل بالملك من يعرف المالك.
غير أن العقد الذي نصصت متناقض إذ لا يعرفون الورثة ويقولون أورثه ورثته ذلك في غير ذلك الكتاب فيشيرو إليهم وهم لا يعرفونهم هذا فاسد متناف ليس يعقد هذا لهكذا إنما يقال فيه: وأورثه ن وجب له ميراثه، أو إلى أن توفى فقط، أو: إلى أن توفى ولا يعرفون لمن ميراثه.
من جفا على من شهد عليه أو أفتى:
في أحكام ابن زياد قال علي بن فلان للشهود ولأهل الفتيا: تشهدون علي وتفتون علي، ما أدري من أكلم وكأنه ذهب مذهب التوبيخ لمن شهد عليه. فأفتوا أن يؤدب أدبا موجعا.
قاله محمد بن لبابه ومحمد بن غالب، ومحمد بن وليد، ويحيى بن عبد العزيز.
وفي المجموعة قال ابن كنانة: إذا قال للشاهد: شهدت على بالزور وقصد أذى به الشاهد والمشهود له لعنه الإمام بقدر حال الشاهد والمشهود له فإن كان على أن ما شهد به على باطل لم يعاقب.
وفي سماع ابن القاسم: إن قال للقاضي: لقد ظلمني والقاضي من أهل الفضل، عاقبه ابن المواز. وكذلك إن أبي ما قضى عليه. قال سحنون: يؤدبه القاضي بنفسه ولا يرفعه إلى الإمام.
وفي سماع أشهب: إذا عدل الشهود عدلان وجرحه عدلان فالتجريح أعمل. وقال ابن نافع وسحنون: ورواه ابن القاسم عن مالك في المدينة.
ونحوه في سماع يحيى، وفي كتاب ابن حبيب، وفي كتاب السرقة من المختلطة. وبه قال عبيد الله بن يحيى في أحكام بن زياد.
وكذا إن شهد عدول في وصي أنه مريض وشهد آخرون أنه مسخوط الحال. قال أبو صالح.
وقال مالك في سماع أشهب وابن نافع: ينظر إلى الأعدال من المجروحين للشاهد والمعدلين. قيل له: ألا ترى شهادة المجروحين أثبت لأنهما على ما لم يعلم الآخران؟
1 / 40
قال: له، هذا رجل عدل أيقبل قولهما عليه؟ ولكن يقال لهما بأي شيء تجرحانه؟ فينظر لمعروف مشهود هو، ولعل الذي يجرحانه به قديم.
وفي المختصر الكبير مثله.
قال القاضي أبو الأصبع: وهذا عندي ضعيف، والأول أصح في النظر، وعليه العمل في المحاضر.
قال محمد بن الحارث: أول ما ينبغي للقاضي أن يفعل عند حضور البينة أن يسهل أذنهم ولا يمطلهم بالوصول إليه لأنها قلقت وافترقت لصاحبها بعد أن حضرت واجتمعت وأن يتعسر لمن يشهدها جمعها مرة أخرى، فربما كان سبب لهلاك حقه أو بعضه بالمصالحة عنه لما أدركه من المشقة.
ولهذا رأيت بعض من حضرني ممن عني بالعلم عند رسمي لهذا الرسم قال كان فلان ابن فلان ممن امتحن بالخصومة، وكان يقول: نقل الحال أيسر من نقل البينة عنده.
فإذا أوصلهم في فهم وبسطهم ثم سألهم عن شهاداتهم فإن كانت تامة قيدها وإن كانت ناقصة سألهم عن بقيتها وإن كانت مجملة كلفهم تفسيرها وإن كانت غير عاملة أعرض عنهم إعراضا جميلا، وأمرهم بالقيام عنه، وأعلم المدعي أنه لم يأت بشيء ينتفع به.
من لم يعرف من الشهود إلا واحد فصرف الحكم عن نفسه:
في أحكام ابن زياد في امرأة قامت عنده بصداق لم يعرف من شهود الذين يعرفون قالوا إنهم يعرفون عينها غير شاهد واحد، ورأى أن غيرهم لا يتعدلون فصرفا عن نظره. قال لها: اذهبي إلى من شئت من الحكام فلعل غيري يعرف بينتك.
فاستحسن الفقهاء وقالوا: رب حق لا يثبت عند حاكم ويثبت عند غيره. فلا أعدم الله القاضي الشديد. وما زال بحمد الله مسددا مجتهدا.
وأحق ما اجتهد فيه البينات. قاله محمد بن وليد، وابن لبابة، وأيوب بن سليمان ومحمد بن غالب.
قال الشاهد: أشهدت فلانة ولم أعرفها بالعين:
قال عبيد الله بن يحيى، وابن لبابة ومحمد بن يحيى، ويحيى بن عبد العزيز في شهادة رجلين شهد على شهادة عبد الرحمن أن فلانة ابنة فلان أشهدتني، ولم يذكر في
1 / 41
شهادته أنه عرفها بالعين والاسم والنسب: إن الشهادة تامة. وقوله: أشهدتني فلانة، معرفة لا محالة.
وفي باب الوصايا بعد هذا:
إذا قال الشهود لا نعرف عين الموصية ولا اسمها شهد أنها مسكنه أو حيزه.
وفي مسائل القاضي أبي بكر محمد بن بيتي بن زرب: إن شهد قوم أنهم يعرفون فلان بن فلان، وأن دار كذا مسكنه. قال القاضي: يستعاد الشهود إن أمكن ويقال لهم: ما أردتم بقولكم مسكنة؟ هل أردتم ملكه أو أنه كان ساكنا فيها؟ فإن قالوا: أردنا ملكه قضى له بها، وإن قالوا: إنما أردنا أنها دار سكناه لم يقض له بملكها.
وإن فاتوا بموت أو غيره قضى له بقوله مسكنه، ولو قالوا: هذه دار سكني فلان وفاتوا قبل أن يفسروا شهادتهم لم يقض له بها بخلاف قولهم مسكنه.
وفي سماع ابن القاسم:
سئل مالك عن شاهدين شهد أحدهما في منزل أنه مسكن هذا، وشهد آخر أنه حيزه. وقال خصمهما قد اختلفت شهادتهما: فقال مالك: حيزه وملكه شهادة واحدة لا تفترق وأراها شهادة واحدة، وربما كانت الشهادة الكلام فيها مختلف والمعنى واحد.
وهذا أصل مسألة ابن زرب.
وفي كتاب الغصب من المختلطة:
إن شهد شاهد في أرض أنها لهذا وشهد آخر أنها حيزه قال مالك: فهي له لأن حيزه أرضه، فأراهما قد اجتمعا على الشهادة.
قال سحنون: معنى حيزه حقه وملكه.
وقال أبو مروان بن مالك: إن شهدوا في دار إنها ملك فلان لم تكن شهادة. قال: وقد شاهدت الحكم بإسقاط هذه الشهادة. ولهذا يقال في العقود: إنهم يعرفونا له، وفي ملكه ومالا من ماله ونحوه. واحتج بأن الملك لفظه محتمل غير بين وأنشد قول الشاعر:
فأصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفر له
لأن (أملك) في هذا البيت بمعنى القدرة والاستطاعة والإمساك له لا بمعنى الملك الذي هو الكسب والغنية.
1 / 42
وقال أبو عبد الله بن عتاب: إن كان الشهود لهم وفيهم يقظة ومعرفة بالشهادة فهي شهادة عاملة.
وقال أبو المطرف عبد الرحمن بن سلمة بطليطلة: هي شهادة تامة ولا خلاف في هذا.
ولهذه المسألة تفريع نظير تركتها لئلا يطول الكتاب؛ وإذ لم نقصد إلا جمع النوازل التي قدمت ذكرها.
شهدوا أن هذا كفؤ لهذه اليتيمة:
في أحكام ابن زياد في بينة شهدت لرجل أراد نكاح يتيمة أنه كفؤ فهمنا وفق الله القاضي ما كشف عنه من أمر الشهود، هل يسألون من أين علموا مما شهدوا فيه أم لا؟ فليس على القاضي كشف عن علمهم من أين علموه إذا شهدوا له أنه كفؤ، وتمت بشهادتهم ووجب عليه إنكاحها، قاله ابن لبابة.
دار فيها نساء ساكنات والإعذار إلى المعنسات:
قال ابن لبابة في الإعذار إلى أخوات ولادة الأبكار في الدار التي كنا فيها ساكنات وأرادت ولادة أن تسكن زوجها فيها: تكشف ولاة عن الدار. فإن قالت: هي لي ولأخواتي، فإن وجد القاضي لأخواتها الكبار ناظرًا من وصي أو وكيل قاضي أعذر إليه في ذلك فإن لم يكن عنده في ذلك مدفع من دعوى يثبتها قيل لو كيلهن: إما أن يسكن وتسكن ولادة مع زوجها في حصنها وإما خرجن كلهن حتى تقسم الدار لتنفرد كل واحدة بحصتها.
وإن لم يكن لها ناظر وثبت عند القاضي أنهن معنسات في حسن حال أعذر إليهن، ثم كان الحكم على ما تقدم في الوصي.
وإن كان في حال من لا يجوز فعلهن وكل القاضي لهم خصمًا يتكلم عنهن على الحسبة أو وكيلًا يقوم مقام الوصي، ويكون الأمر على ما ذكرنا في الوصي.
وإذا كن في حال من يجوز لهن الكلام فلابد من أن يقال لهن: إما أن تسكن مع ولادة وزوجها وإما خرجن كلهن حتى يتبين ما يدعين إن ادعين زوال ملك ولادة. وإن لم يدعين زوال ملكها وكل من يقسم الدار بينهن فتسكن كل واحدة في حصتها.
وقال في مريضة أنها مثبتة المرض ممنوعة الكلام. بمن أرسل القاضي إليها من البينة:
1 / 43