مقدمة
بقلم طه حسين
نضر الله وجهك يا بني! ما أعظم ما كنا نعقد بك من أمل، وما أفدح ما أصابنا فيك من يأس! لقد رأيناك هلالا يلوح ضوءه في السماء؛ فيملأ القلوب رجاء وحبا وثقة، ثم رأيناك بدرا يغمر نوره الأرض؛ فيملأ قلوبنا رضا وغبطة وإعجابا. وما هي إلا ساعة يبتسم فيها الليل المظلم عن شخصين كريمين، أحدهما يسعى من الشرق ليملأ الأرض والسماء وما بينهما نورا وهو الفجر، والآخر من الشمال ليذود عن الحق في موطن من مواطن الزياد عن الحق وهو أنت؛ فأما الفجر فيمضي حتى يصير شمسا، وأما أنت فتمضي حتى تصير موتا.
كذلك قضى الله أن يسطع نور الكواكب إلى حين، وأن يخبو نور الناس قبل أن يبلغ أمده وينتهي إلى غايته.
اللهم إنا لا نسألك رد ما قضيت، ولا نقض ما أمضيت، وإنما نسألك أن تنزل السكينة على قلوبنا، وتعصم نفوسنا بالصبر والعزاء من اليأس والقنوط؛ فإنك قلت وقولك الحق:
إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون .
والأحياء يستطيعون أن ييأسوا وأن يرجوا، وأن يقنطوا وأن يحاولوا اتخاذ السلالم إلى السماء واتخاذ الأنفاق في الأرض، دون أن يجدوا من قضاء الله مهربا وعن قدره مزحلا أو محيصا.
قضى الله على الناس أن يهرم بعضهم حتى يضيق بالهرم ويضيق الهرم به، وأن يخترم بعضهم قبل أن يبلغ من الشباب آرابه ويحقق للناس ما كانوا ينتظرون منه ويأملون فيه.
إيه يا عزيز! وما أكثر ما كنت أقول لك: إيه يا عزيز! كنت أقولها لك أيام كنت طالبا تختلف إلى أستاذك في الدرس وتختلف إليه في غير ساعات الدرس، وكنت أقولها لك بعد أن تخرجت في الجامعة وبعد أن أبعدت في طلب العلم وعدت إلى وطنك ترضى قليلا وتسخط كثيرا، وكنت أحب أن أسمع منك حديث الرضا؛ لأنه كان حلوا، وكنت أحب أن أسمع منك حديث السخط؛ لأنه كان كريما يملؤه الإباء ويشيع فيه النقاء. وكنت لا تسمعني أقول لك: إيه يا عزيز! حتى ينطلق لسانك بالحديث عذبا كأنه العين الصافية ينساب منها الماء بين الخمائل والرياض، أو ينطلق لسانك بالحديث كأنه البركان يقذف بالحمم، ويوشك أن يحرق من حوله كل شيء. وما أكثر ما كنت أقول لك حينئذ: على رسلك يا بني! فإنك إنما تتحدث إلى الأستاذ الصديق لا إلى المستعمرين ولا إلى الظالمين!
إيه يا عزيز! إني لأقولها لك بين حين وحين وقد قطع الموت ما بينك وبيني من الأسباب، فلا أسمع حديثك راضيا، ولا أسمع حديثك ساخطا! ولكني على ذلك أسمع منك حديثا صامتا لا يصل إلى سمعي؛ لأن الموتى لا يتحدثون إلى الأسماع، وإنما يصل إلى قلبي؛ لأن الموتى كثيرا ما يتحدثون إلى القلوب. وإنك لتعلم يا بني أن أجسام الموتى تغيب في الماء أو في التراب، ولكن نفوسهم تحيا في القلوب، فتتحدث إليها وتسمع منها في النوم واليقظة، وفي الإقامة والظعن.
صفحة غير معروفة