ولم يكن تعريبهم مقصورا على أدوات المعيشة من اللوازم والضروريات، بل كان شاعرهم الأعشى يعرب آلات الطرب بألفاظها الأعجمية كما قال في وصف مجلس الغناء:
والناي نرم وبربط ذي غنة
والصنج يبكي شجوه أن يوضعا
فالناي نرم، والبربط، والصنج، كلمات أعجمية بألفاظها عربها الشاعر ولم يترجمها، وربما استطاع أن يترجمها بما يقاربها لو أنه أراد.
وإنما صنع العربي ذلك في عصور اللغة الأولى لثقته بلغته وخلو ذهنه من الخوف عليها من مزاحمة اللغات الأخرى، ولعله لم يحسب قط أنها «لغات» تقارن لغته لاعتقاده أن المتكلمين بها أعاجم لا يفصحون.
هنا كانت نسبة التعريب أكبر من نسبة الترجمة، وكان باعثه الطبيعي أنه أقرب إلى العادة المألوفة، وأنه شيء لا مانع له من الخوف على كيان اللغة ولا على مصيرها، فما شعر العربي قط بتهديد لذلك المصير.
ثم انتشر العرب بعد الإسلام في بلاد العالم المعمور، فاختلطوا بأبناء اللغات الأجنبية في ديارهم وحادثوهم بألسنتهم أو سمعوهم يتحدثون إليهم بلسان عربي تشوبه اللكنة الأعجمية والأخطاء الدخيلة على تراكيب اللغة وأبنيتها وقواعدها المصطلح عليها، فساورهم الخوف لأول مرة على سلامة اللغة في حاضرها ومصيرها، وأخذوا في ضبط قواعدها وتدوين مفرداتها وتمييز قديمها من الدخيل عليها، وتحفظوا في النقل إليها فرجحوا الترجمة على التعريب كلما تيسر نقل المعاني من اللغات الأخرى إلى الألفاظ العربية، ولكنهم قصروا التحفظ على شئون الدين والبيان، ولم يلتزموه كثيرا في غير ذلك من الشئون، حتى شئون العلم ومراسم الدولة.
فعربوا مثلا كلمة «الموسيقى» بلفظها اليوناني بغير تصرف، وكان في وسعهم أن يسموها «فن النغم».
وعربوا كلمة «الاصطرلاب»، وكان في وسعهم أن يسموها «مقياس النجوم» أو «مقياس الفلك».
وعربوا كلمة «إيساغوجي» في المنطق، وكان في وسعهم أن يسموها «المدخل» أو «التمهيد».
صفحة غير معروفة