ولا حاجة إلى الإطالة في القول والرد، أو في التأييد والتفنيد، فإن المقابلة بين الأدب العربي في سنة 1957 والأدب العربي في سنة 1857 تغنينا عن هذه الإطالة، وتقول لنا إن قمرنا الأدبي قد كان فكرة ناشطة يوم كان القمر الصناعي حلما في الخيال أو معادلة رياضية تشبه أحلام الخيال.
وشأن الأدب العربي في دور التنفيذ العلمي كشأن القمر الصناعي في هذا الدور، فإن المعول - عند التنفيذ - على الجهود العملية التي يستطيعها الناطقون بالضاد لتحقيق الأفكار وتطبيق النظريات، ولا زيادة على فكرة التجديد بهذه الزيادة في أعمال التطبيق والإنجاز، كما أن العلم لم يزد شيئا في نظريات الحركة وقوانينها الدائمة بعد ظهور الأقمار الصناعية للعيان.
إن قمر الآداب قد صعد فعلا إلى سمائه يوم انطلق من قيود المحاكاة وتصرفت به الأقلام في مختلف الموضوعات بين منظوم ومنثور، وبين نقد وتاريخ، وبين قصة ومقال، وليس يصح في الرأي أن يقال إن الأدب العربي في عصرنا هذا قاصر عن مطالب أهله؛ فإن هذا قد يصدق على خصب المكان ولا يصدق على خصب العقول والملكات، فإذا قيل إن تربة الإقليم الذي تعيش فيه الأمة لا تواتيها بكل ما تحتاج إليه من الثمرات والخيرات فذلك شيء جائز في الحس، واقع بين أعيننا في مختلف الأقطار، أما أن يقال إن عقول الأمة لا تواتيها بحاجاتها الفكرية فهو قول متناقض لا يستقيم لا فيما نفهمه ولا فيما نراه؛ إذ كانت حاجة العقل لا تزيد على ما يستطيعه من الإنتاج ، ولا يحدث في أمة من الأمم أن تكون لها عقول تنتج ثم تكون العقول التي دونها في الإدراك طالبة لشيء يفوق إدراك المنتجين.
والمشاهد في تواريخ الآداب أن «العصر الحاضر» في كثير من الأزمان يتعرض للظلم من بنيه، ويجد الإنصاف أحيانا من لاحقيه وممن يستطيعون بعده أن يوازنوا بينه وبين سواه.
ففي مذكرات «دستيفسكي» كاتب الروس الأكبر يشير هذا العبقري القدير إلى النعاة على عصره، ويحاول أن يدفع الشبهة عنه وعن زملائه في الأدب بما استطاع، ولو أننا عرضنا أمامنا آداب الأمة الروسية منذ عرفت لها آداب مقروءة في العالم لما وجدنا بين أعمالها من هم أحق بالذكر والإعجاب من «دستيفسكي»، وزمرته من أمثال تلستوي وترجنيف وجوركي وشيخوف وارتزيباشف وأندرييف وغيرهم، وغيرهم من طبقة هؤلاء الفحول أو ممن هم دونهم بقليل.
وهكذا يحدث في عصرنا هذا حين يقاس إلى عصور الآداب القريبة منذ بدأت فيها نهضة التجديد، فلا نفتأ نسمع فيه صيحات النعاة الذين لا يعملون ولا يقدرون جهود العاملين، ولا يفتأ زاعم يزعم أن الحاضرين مقصرون ولا يقول لنا من هم السابقون الواصلون: أهم أدباء ما مضى قبل قرن من الزمان؟ أم هم أدباء ما يأتي بعد قرن آخر من الزمان؟
لا هؤلاء ولا هؤلاء يصح أن يقال إنهم فعلوا ما لم يفعله الحاضرون في خدمة الآداب العربية، وقد يأتي العصر المقبل بجديد حسن - ونرجو أن يفعل ذلك ويجاوز المدى من حيث الظن والرجاء - ولكنه حين يأتي به يحسب له ولا ينقص من حساب من تقدمه، بل يضاف إليه.
ولا يسأل سائل: هل وصل الأدب في عصرنا إلى الغاية؟! فإن جوابه سؤال مثله: هل وصل القمر الصناعي إلى الغاية في سمائه؟!
إنه لا يزال طفلا يتعثر ويتلعثم، ولا نحسب أن طفلنا في الأدب العربي أكثر منه تعثرا في الخطوات وتلعثما في الكلمات، وما كان لشوط أن ينتهي أبدا إلى نهاية المطاف، وما يكون لنا أن نترقب هذه النهاية في مقبل الزمان القريب أو مقبل الزمان البعيد، ولكننا نعلم أن القمر الصناعي يدرج والقمر الأدبي لم يقض ولم ينقض عليه جيلان في موضع واحد، وسيدور القمر الصناعي دورته قبل أن تتم الدورة بالأدب في لغتنا أو في سائر اللغات؛ لأن جو الفضاء يذرع ويقاس فيما ندركه بالأجسام، وأما جو النفوس فلا غاية له ولا قرار، ولا هو مما تحده الأيدي والأبصار أو تحصره المصانع والأدوار.
الفصل السادس
صفحة غير معروفة