إن الدراسات التالية تستعرض أهم آراء ابن خلدون ونظرياته الأساسية، على اختلاف أساليب عرضها.
موضوع التاريخ ومهمة المؤرخ
1 (1)
يقرر ابن خلدون رأيه الخاص في موضوع التاريخ وحقيقته في بدء الكتاب الأول بالعبارات التالية: «حقيقة التاريخ: أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال؛ مثل التوحش، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال» (ص35).
يظهر من ذلك أن موضوع التاريخ في نظر ابن خلدون واسع جدا، وهو لا ينحصر بما حدث من الفتوحات والحروب، وما توالى من الدول والملوك في الأزمنة الغابرة، بل يشمل كل ما حدث من التحول في الحياة الاجتماعية - على اختلاف مظاهرها - وفي المؤسسات الاجتماعية - على اختلاف أنواعها - فإن الأخبار المتعلقة بالأحوال الاقتصادية والصنائع والعلوم أيضا تدخل في نطاق موضوع التاريخ.
ابن خلدون يتفوق بنظرته هذه على جميع المؤرخين الذين سبقوه في الشرق والغرب بوجه عام، وعلى جميع الذين أتوا بعده خلال أربعة قرون على أقل تقدير.
ومن المعلوم أن هذه النظرة الشاملة والمتوسعة في موضوع التاريخ، من النظرات الخاصة بما يسمى عادة باسم «تاريخ الحضارة»، وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى أن يعتبروا ابن خلدون «أول من حاول كتابة تاريخ الحضارة» بمعناها الشامل. (2)
يلاحظ ابن خلدون أن التاريخ مما يشغف به الخواص والعوام على حد سواء؛ لأن كل الناس يتشوقون إلى معرفة أخبار الماضي، ويهتمون بأبحاث التاريخ ويتكلمون فيها. غير أنه يجد فرقا عظيما بين مفهوم التاريخ الدارج وبين مفهومه الحقيقي، ويوضح هذا الفرق في الديباجة بالعبارات التالية - بالأسلوب المسجع الذي تختص به الديباجة المذكورة: «إن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال.
إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال.
وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق» (ص3-4). (3)
صفحة غير معروفة