170

دراسات عن مقدمة ابن خلدون

تصانيف

وأما شرف تأسيس هذا العلم فيعزى - عادة - إلى المفكر الفرنسي المشهور «أوغوست كونت»

Auguste Conte (1798-1853)؛ لأن المومأ إليه كان - على ما يعتقد - أول من اتخذ «الاجتماع» موضوعا لعلم مستقل، وأول من استطاع تأسيس هذا العلم على أسس علمية مثبتة، وزيادة على ذلك فإنه كان أول من ابتدع واستعمل كلمة «السوسيولوجيا»

La Sociologie

لتسمية هذا العلم الجديد.

ولقد وضع أوغوست كونت علم الاجتماع في المرتبة الأخيرة والعليا من «مراتب العلوم»، التي رتبها وشرحها في فلسفته الخاصة، ثم حاول أن يوضح الأسباب التي استوجبت تأخر تأسس هذا العلم إلى هذا الحد، على ضوء نظريته المشهورة عن مراتب العلوم بوجه عام.

لقد لاحظ كونت أن العلوم يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا، من حيث درجة «معضلية مواضيعها» ومبلغ «عمومية مسائلها»، وقال إن العلوم التي تكون بسيطة المواضيع تتأسس قبل التي تكون معضلة المواضيع؛ مثلا، من الواضح أن الأفاعيل الحياتية أشد إعضالا من الحادثات الكيماوية، فلا يمكن - والحالة هذه - معرفة قوانين الحادثات الحياتية، قبل معرفة قوانين الحادثات الكيماوية، فكان من الطبيعي أن يتوصل الفكر البشري إلى اكتشاف القوانين الكيماوية قبل اكتشاف القوانين الحياتية، وكان من المستحيل عليه أن يؤسس علم الحياة على أسس علمية مثبتة، قبل أن يؤسس علم الكيمياء على مثل تلك الأسس المثبتة.

وبناء على هذه الملاحظة رتب كونت العلوم الأساسية حسب درجات إعضال مواضيعها، مبتدئا من الرياضيات، التي هي أقل إعضالا من جميعها؛ فتوصل إلى السلسلة التالية: (1) الرياضيات. (2) علم الفلك. (3) علم الفيزياء. (4) علم الكمياء. (5) علم الحياة. (6) علم الاجتماع.

يلاحظ أن مواضيع كل حد من حدود هذه السلسلة، أقل عمومية وأشد معضلية من التي قبلها، وأشد عمومية وأقل معضلية من التي بعدها، فكل علم من هذه العلوم يحتاج إلى التي قبله، ويمهد إلى التي بعده.

ولهذا السبب كان من الطبيعي أن يتقدم علم الفلك - تاريخيا - على علم الفيزياء، كما يتقدم هذا العلم على علم الكيمياء، وعلم الكيمياء على علم الحياة، وعلم الحياة على علم الاجتماع. وكان من المستحيل أن يتأسس علم الاجتماع قبل أن يتأسس علم الحياة، وسائر العلوم المتقدمة عليه.

لم يكن في استطاعة أرسطو - على رأي كونت - أن يتصور علم الاجتماع؛ لأن جميع العلوم الممهدة للعلم المذكور كانت غير معلومة وغير مؤسسة في عصره، وما كان في استطاعة مونتسكيو أيضا أن يوجد علم الاجتماع - على الرغم من العبقرية الفذة التي أظهرها في أبحاثه - لأن علم الحياة لم يكن قد أخذ شكلا علميا بعد زمانه.

صفحة غير معروفة