في حين أن فيكو يدعي بأن الحياة الاجتماعية تقوم على الديانة بوجه عام، ويقول بصراحة قاطعة: «لولا الدين لما وجد اجتماع على الإطلاق.»
3
وأما من وجهة طريقة البحث والتفكير، فالاختلاف كبير جدا بين الكتابين والمؤلفين: (1)
ابن خلدون يستند في آرائه ونظرياته إلى الوقائع بوجه عام، إنه لا يسهو عن الأغلاط والأوهام التي كثيرا ما تتسرب إلى الأخبار المنقولة، ولا يتأخر في البحث عن الطرائق التي تضمن تمييز الخطأ من الصواب في تلك الأخبار، ومع هذا فإنه يتخذ الحادثات المشهودة أو المنقولة أساسا لأبحاثه على الدوام، ويسير في تفكيره على «طريقة استقرائية» وفقا لما تتطلبه المناحي العلمية الحديثة.
إنه يذكر في الواقع في عنوان كل فصل من فصول الكتاب «القضية» التي يقول بها، ثم يأخذ في سرد الأدلة التي تبرهن عليها، ولكن مما يجب أن يلاحظ في هذا الصدد، أن هذه الخطة تتعلق بكيفية عرض نتائج الأبحاث، أكثر مما تتعلق بسير الفكر خلال البحث. إن قراءة الفصول بإمعان تدل دلالة واضحة على أن ابن خلدون يسير في تفكيره - في أغلب الأحوال - على طريقة استقرائية صريحة.
أما فيكو فإنه لا يتقيد كثيرا بالوقائع والحادثات، فيبقى بعيدا عن مناحي الأبحاث الاستقرائية بوجه عام. إنه لم يتخلص في تفكيره من تأثير الفلسفة الأفلاطونية، فيشبه التاريخ بالهندسة، ويحاول أن يكشف سنن سير التاريخ، ونظام المجتمع مستندا إلى ما يعرفه عن طبيعة العقل البشري، ومعتمدا على بعض القضايا التي يعتبرها من «الحقائق الأولية التي يجب التسليم بها مبدئيا»، وفق الخطط التي تتبع عادة في الأبحاث الرياضية والهندسية.
ومن المعلوم أن الأبحاث التي تمت منذ عهد فيكو دلت دلالة قاطعة على أن قوانين الحوادث الاجتماعية، وأسباب الوقائع التاريخية، مما لا يمكن اكتشافها إلا بملاحظة تلك الحادثات، واستقراء تلك الوقائع.
وأما الفلسفة الاجتماعية التي كانت تحاول اكتشاف قوانين الاجتماع عن طريقة استنتاجها من المباحث النفسية، فقد أفلست إفلاسا تاما؛ وذلك لأنه قد تبين لجميع الباحثين أن نفسية الإنسان تتطور بتطور الحياة الاجتماعية، وأن النفسية الاجتماعية تختلف عن النفسية الفردية، كما أن كثيرا من الحادثات النفسية التي تظهر في الوهلة الأولى كأنها فردية، لم تتكون في حقيقة الأمر إلا تحت تأثير الحياة الاجتماعية. ولهذا السبب ليس من سبيل إلى معرفة قوانين الاجتماع وعوامل التاريخ، إلا من طريق ملاحظة الحوادث الاجتماعية، ودرس الوقائع التاريخية. (2)
وهنالك فروق بارزة أخرى تميز «مقدمة ابن خلدون» من «العلم الجديد» من وجهة النزعة العامة؛ وهي الفروق الناجمة من خلط الأبحاث العلمية بالمسائل الدينية، أو فصلها عنها فصلا واضحا.
إن ابن خلدون - مثل فيكو - يعتقد بالله، ويقول بقدرة الله وعناية الله، ويعتبر نظام الكون ونظام المجتمع من سنن الله، ويظهر اعتقاده هذا في كل فصل من فصول كتابه، بوسائل شتى.
صفحة غير معروفة