Max Muller
في كتابه عن الأساطير المقارنة
Comparative Mythology ، وهو لا يبنيها على هذا الاعتبار النفسي وحده، بل يستند فيها إلى وثائق لغوية، استمدها من دراسته المقارنة للأساطير والتماثيل القديمة، وعلى الأخص من دراسة الفيدا
les Vedas «كتب الديانة البراهمية»، حيث وجد أن أسماء الآلهة فيها هي - في الغالب - أسماء لتلك القوى الطبيعية العظيمة كالسماء والنار ونحوها، وأن هذه الأسماء بعينها تتشابه حروفها في سائر اللغات المسماة «بالهندية الأوروبية»، فخلص من ذلك إلى أنه، قبل تشعب الشعوب الإنسانية وخروجها من موطنها الأول، كانت هناك لغة واحدة، تعبر عن هذا التقديس العام لقوى الطبيعة الكبرى، فتكون إذا هي الفكرة الأولى قبل ظهور الحضارات.
غير أنه لما كانت الديانة بمعناها الحقيقي لا توجد إلا حيث يوجد اعتقاد بكائنات حية عاقلة، فعالة، يتوجه إليها بالعبادة؛ لزم السؤال عن سبب هذا التطور الفكري: من النظر في مشاهد الطبيعة، إلى التفكير في تلك الكائنات الروحية.
يجيب ماكس ميلر بأن هذه من أثر اللغات نفسها؛ لأنها في العادة تنسب لكل ظاهرة فعلا يشبه أفعال الإنسان، فنحن نقول: إن النهر «يجري»، والشمس «تطلع»، والهواء «يئن أو يزمجر»، والنار «تشهق أو تزفر» إلى غير ذلك. فهذه التعبيرات التي كانت في أصلها تعبيرات مجازية تشبيهية، طال بها الأمد حتى أخذت على حقيقتها؛ فصارت هذه العناصر نفسها تأخذ في الأذهان صورة الكائنات الحية المفكرة، ومن هنا نشأت عادة تمثيل الأفلاك والعناصر في رموز مجسمة على صورة الحيوان أو الإنسان، ولعب الخيال في ذلك دورا هاما: فكان تارة يرمز إلى الأشياء المتعددة التي يجمعها اسم مشترك باعتبارها حقيقة واحدة تتحول من نوع إلى نوع، وهكذا ...
هل نحن بحاجة إلى تذكير القارئ بأن هذه المحاولة التي قد تنجح في تعليل الأساطير والمثل، لا تصلح تفسيرا للأديان؟
لقد اعترف ميلر بأن العقلية التي تتصور العناصر بصورة الحيوان المفكر عقلية مريضة، أوقعها الوهم والخيال في حبائله حتى وصل بها إلى درجة الخبل والهذيان .
ونزيد نحن أنها في الوقت نفسه ليست عقلية دينية - كما يعلم مما أسلفناه في تحديد معنى الدين - وأنه اعتقاد في «روح» مستقلة تسيطر على الطبيعة لا في «نفس» محصورة في الطبيعة، مسايرة لها.
فالصواب في تفسير هذه النقلة الفكرية، من المادة إلى الروح، أنه انتقال من الكائن إلى المكون، وهو انتقال معنوي طبيعي من غير حاجة إلى توسط اللغات. فكما أن الناظر في جمال أثر فني لا يقدر أن يمنع نفسه من التفكير في ذوق الفنان؛ والناظر في دقة الآلة المركبة ينتقل فكره توا إلى مهارة المهندس، كذلك التأمل في عظمة البدائع الكونية ينساق بطبيعته إلى التفكر في عظمة القوة العاقلة التي تدبرها.
صفحة غير معروفة