هل صحيح أن قوى النفس المختلفة تسير في نموها على قدم المساواة، وأن حياة الناس الروحية تمشي في كل أدوارها جنبا إلى جنب مع حياتهم المادية؟ أولسنا نرى هاتين الظاهرتين تسيران أمامنا في طريقين متعارضين؟ فإذا صح ما يقال من أن الإنسان كان في بدايته قانعا بكهف يئويه، وجلد حيوان يستر به بشرته، وشيء من الأعشاب يدفع مخمصته، ألا تكون قلة مشاغله ومطامحه المادية قد تركت في نفسه فراغا عميقا للتأملات التي ترهف حاسته الدينية، وتنمي مشاعره الروحية العليا؟ كما أن اشتغال الناس في عصور المدنيات بترف الحياة الجثمانية يؤدي إلى عكس هذه النتيجة؛ ذلك أن الغرائز المتقابلة تضعف وتتقلص بقدر ما تنمو وتقوى أضدادها، ككفتي الميزان، لا ترتفع إحداهما إلا انخفضت الأخرى.
على أن قليلا من التأمل يهدينا إلى أن قياس الأديان على الفنون والصناعات إنما هو محاولة للجمع بين أمرين لا تؤلف بينهما حقيقة نوعية مشتركة، بل تتباين طبائعهما ووسائلهما. فبينما حقائق العلوم ثروة واسعة ترحل النفس في طلبها واكتسابها، ويتطلب اقتناؤها وتنميتها علاجا ومثابرة، واستعانة بأدوات منفصلة في غالب الأمر، وحقيقة الدين توجد عناصرها قارة بين الجوانح، وتعرض دلائلها لائحة أمام الحس، حتى إن التفاتة يسيرة لتكفي للظفر بها في حدس سريع كالبرق الخاطف، وليس إدراك هذه الحقيقة الكبرى محصول إدراكات لحقائق الكون ودقائقه الجزئية، ولا هو أشق منها كما ظن،
2
بل إنه يتقدمها ويمهد لها، في نظرية كلية تلم بها جملة، قبل أن تفحص أجزاءها وتفصيلاتها؛ ولذلك يستوي العالم والجاهل في أصل هذا الإحساس، كل على فهمه يجد في الكون ما يبهره ويستولي على مشاعره.
ولقد كان مقتضى الوضع السليم، في تعرف ما كانت عليه بداية الأديان فيما قبل التاريخ، أن تسترشد في مقارنتها، لا بسير الفنون والمصنوعات، بل بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إلى اليوم، ألا وإننا نعرف بالاستقراء أن كل واحدة من هذه الديانات بدأت بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتها الشوائب والأباطيل على طول العهد، فالأشبه أن تكون هذه سنة التطور في الديانات كلها: أن بدايتها دائما خير من نهايتها.
فإذا أبينا إلا أن نقيس تطور الدين على تطور الفن، كان من الحق علينا ألا نأخذ في هذه المقارنة بالمقاييس السطحية والتشابه اللفظي الأجوف، بل ننظر إلى جوهر الأشياء وأعماقها، وحينئذ ينقلب هذا القياس نفسه حجة في يد أنصار «الفطرية»، ذلك أن معنى «التطور» في الفنون - كما في كل كائن حي - هو أنها تبدأ في صورة ساذجة، متحدة، متجانسة، ثم تنتقل تدريجيا إلى نوع من التكثر والتركيب، تزداد به تعقيدا كلما بعدت عن العقيدة الإلهية يستوجب أنها سارت أيضا من الوحدة إلى الكثرة، ومن النقاوة والسهولة واليسر، إلى التعقد بالإضافة الأسطورية، والنزوات الخيالية، التي لا ضابط لها من العقل السليم. (3) التطور بين الأديان السماوية
أما «التطور» بمعناه الأدبي، وهو الترقي من النقص إلى الكمال، فليس قانونا علميا، ولا سنة طبيعية مطردة، ولا يمكن تطبيقه بصفة آلية على التاريخ البشري، وإنما هو إحدى القيم العليا التي تطمح إليها النفوس، وتشرئب إليها الأعناق؛ فتبلغها حينا؛ وتنحسر عنها أحيانا. نعم، إن كل مصلح لا بد أن يكون مؤمنا بإمكان تحقيق هذه الغايات السامية؛ إذ لولا الأمل في قابلية الأخلاق والعقائد للتحول والرقي، لبطل كل تشريع، ولأصبح من العبث بذل أدنى مجهود للتقدم، ولكن شتان ما بين قابلية الترقي وبين تحققه بالفعل، فهذا مطمح لا يناله إلا من أدى مهره من العزيمة الصادقة، والمجاهدة المتواصلة. وتاريخ الإنسانية لا يسير في هذا الاتجاه على خط رأسي مستقيم.
3
هكذا نرى أن التحليل النفسي، وشواهد التاريخ، والتطور الصحيح؛ لا يقف شيء منها في وصف الدفاع عن النظريات الموسومة بالتطورية، والتي تجعل الخرافة والأسطورة هي بداية الأديان؛ بل إنها بالعكس تميل إلى تأييد النظرية المقابلة، غير أن تأييدها لهذه النظرية الأخيرة لا يرفعها إلى صف الحقائق التاريخية المفروغ منها؛ لأن هذه الدلائل كلها لا تقدم لنا ضمانا من المنطق ولا من الواقع تثبت به أن الحوادث كانت تسير بالفعل دائما على وفق ما ألفناه من الأوضاع، لا على الوجه الذي كان ينبغي أن يكون.
بل هي هنا نظرية ثالثة يمكن الأخذ بها في المسألة، وتقريرها أن الرشد والضلال في الفكرة الدينية ليستا ظاهرتين متعاقبتين فقط، صعودا أو انحدارا على مدى العصور، بل هما ظاهرتان متعاصرتان، موزعتان في كل أمة وجيل، تبعا لاختلاف الأفراد في درجات استقامة الحدس العقلي، ونبل الحس الباطني، فلا يخلو جيل ما من نفوس صافية تدرك الحقيقة نقية من شوائب الخرافة، وأخرى دون ذلك. ولعل هذا الوصف هو أقرب الأوصاف تصويرا للواقع المعروف، فقد اتفق الموثوق بهم من مؤرخي الأديان - كما أسلفنا - على أن أشد الشعوب همجية ووثنية لم تنفك عن الاعتقاد بإله خالق هو رب الأرباب.
صفحة غير معروفة