هذا البيان يرينا على وجه يمكن أن نفهم الصلة بين العلم الإلهي وسائر العلوم: «طبيعية، أو رياضية، أو فلكية، أو نفسية، أو اقتصادية، أو منطقية، أو اجتماعية، أو تاريخية، أو لغوية، أو غيرها»، وأنها ليست صلة وحدة في الموضوع، ولا اشتراك في الأهداف؛ إذ مهما تعالج هذه العلوم من مشاكل، فليس واحد منها يتصدى لعلاج المشكلة الكبرى التي انتهض الدين لحلها، إنها كلها تبحث عن الكائنات، وليس شيء منها يبحث عن مبدئها الأول وغايتها القصوى، غير أنها كلها تستطيع أن تزجي لهذا المطلب خدمة ما من قريب أو بعيد، ولن يستغني الدين عن العلوم إلا لو استغنت المقاصد عن وسائلها ومقدماتها، أو الدعاوى عن حججها وبيناتها، فكما أن المجهول لا يتوصل إليه إلا عن طريق المعلوم، والغائب لا يدرك إلا على ضرب من القياس على الشاهد؛ كذلك الحقائق العليا لا يسهل الصعود إليها إلا على سلم من حقائق الدنيا. (4) خدمة العلوم للأديان من وجهين
فإن بعدت صلة بعض العلوم بالدين، وعجزت عن أن تقدم له مددا إيجابيا ملموسا، فإنها بما تبدد من ظلمات الأوهام، وبما تبعث من النور في جوانب النفس، تقوم بوظيفة تطهير وتنقية، لا بد منها لتهيئة جو عقلي صالح لاعتناق العقائد السليمة، حتى إذا ركن القلب إلى شيء كان ركونه إليه على بصيرة وبينة، لا مدفوعا بحمية الجهل، ولا منقادا بسذاجة المحاكاة
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
1 (5) لا يمكن عقلا أن يوجد تعارض بين الأديان والعلوم نفسها
ومهما يكن من أمر، فالمعقول أنه، إن لم يكن بين العلم والدين تعاون من قريب ولا بعيد، كان بينهما - على الأقل - من التفاهم وحسن التجاوز ما بين فروع الصناعات المختلفة؛ إذ ليس يعقل أن يكون هناك تعارض وتناقض بين أمرين لا اشتراك بينهما في موضوع واحد. (6) تفسير المصادمات التي وقعت بين حملة الأديان وحملة العلوم
وهنا يحق لنا السؤال عن تفسير تلك المصادمات العنيفة، التي ظهرت في التاريخ غير مرة، بين العلوم والأديان، لا نعني ذلك الصراع الصوري الذي يستغل فيه اسم العلم أو الدين أحيانا؛ ليكون ستارا للمقاصد الخفية، والمطامح المختلفة، من الثروة، والنفوذ، والجاه، وسائر المصالح العاجلة، كما لا نعني: الصراع الحقيقي الدائم بين النزعات الروحية السامية التي تدفع إلى التضحية وضبط النفس والاعتدال، وبين النزعات المادية المضادة التي تهدف إلى الفوضى والإباحة والاستئثار، وإنما نطلب تفسير تلك المعارضة الفكرية التي تقع بحسن نية بين المعسكرين العلمي والديني، فتقف كل واحدة منهما موقف التكذيب والإنكار لما عند الآخر.
والجواب أن هذه المعارضة تحدث - فيما نعلم - على إحدى صورتين:
الصورة الأولى:
أن يقف أحد الطرفين موقف المعارضة لما عند الآخر جملة، لا بناء على حجة تدحضه، أو شبهة تضعفه، بل عفوا واعتباطا، أو لمجرد جهله به، ظنا منه أن كل ما لم يدخل في دائرة علمه في الحال فليست له حقيقة، وهذا لعمري من قصر النظر، بل من الجهل والغرور؛ فإن التكذيب لما لم يحط الإنسان بعلمه، ولم يأته تأويله خطأ لا يرتكبه الراسخون في العلم والدين، وإنما يقع فيه المغرورون من العامة أو «أنصاف المتعلمين»، وهؤلاء أشد خطرا من الجهلاء؛ لأن علمهم في الحقيقة جهل مركب، وإنما الإنصاف أن يكون كل امرئ عارفا بقدر نفسه، واقفا عند حده، بناء غير هدام، والسبيل القاصد في ذلك أن يثبت كل فريق ما وصل إليه، ولا ينكر ما لم يصل إليه.
وقد رأينا العلماء المتخصصين في فرع من العلوم الطبيعية أو العقلية يعتمدون النتائج التي وصل إليها المتخصصون في فرع آخر منها: كل في نطاق تخصصه، ولا ينتظرون أن يعيدوا كلهم ما جربه أو برهنه بعضهم، وهذا هو الوضع السليم الذي تتقدم به المعارف الإنسانية؛ إذ لو وجب أن يعيد كل عالم بحث كل مسألة بنفسه لما تقدمت العلوم خطوة واحدة، فكذلك ينبغي أن يكون الشأن بين حملة العلوم وحملة الأديان.
صفحة غير معروفة