الفلسفة تعمل إذن في جانب من جوانب النفس، والدين يستحوذ عليها في جملتها. الفلسفة ملاحظة، وتحليل، وتركيب؛ فهي صناعة تقطع أوصال الحقيقة وتزهق روحها، ثم تؤلف بينها لتعرضها من جديد في نسق صناعي على مرآة الفطنة، فتنطبع على سطح النفس قشرة يابسة. أما الدين فهو حداء ونشيد يحمل الحقيقة جملة، فيعبر بها هذه القشرة السطحية، لينفذ منها إلى أعماق القلوب وأغوارها، فتعطيها النفس كليتها، وتملكها زمامها.
ومن هنا يستنبط فرق دقيق بين الفلسفة والدين:
ذلك أن غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العلمي، وغاية الدين عملية حتى في جانبه العملي، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي نعرفه، والخير الذي تحدده. أما الدين فيعرفنا الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه، ونكمل نفوسنا بتحقيقه.
وأول الآثار العملية للفكرة الدينية هو لفتها شعور المتدين إلى صلة بينه وبين الحقيقة العليا التي يدين لها، وهي صلة تقوم في جوهرها على معنى الإلزام والالتزام الأدبي بينهما، على حين أن الفلسفة من حيث هي فلسفة - أعني: من حيث هي صناعة عقلية، مستقلة عن التصوف والمعاني الوجدانية - تستطيع أن تعيش من غير اعتراف بهذه الصلة، ذلك أن غاية الفيلسوف من ربطه المسببات بأسبابها هو فهمه الأشياء على وجه منطقي معقول، بحيث يأخذ كل حد منها موضعه اللائق به، فالقوة العليا التي يضعها الفيلسوف على رأس الحوادث الكونية يكفي فيها أن يكون شأنها في الكون شأن الصانع في تدبير صنعته، أو الربان في قيادة سفينته، وهي - كما ترى - صلة آلية خارجية، لا يتبادل فيها الخطاب، ولا تتناجى فيها الأرواح، ولا يتجه فيها العبد إلى الرب بالمحبة والتبجيل، والخشية والتأميل، وما إلى ذلك من المعاني التي لا يتحقق مفهوم الدين من دونها؛ إذ الدين ليس إيمانا ومعرفة فحسب، بل هو فوق ذلك التفات روحي متبادل، هو رباط من الطاعة والولاء، ومن الحدب والرعاية، بين المتدين وبين الحقيقة العلوية التي يؤمن بها.
ومن هنا تعرف السر في اتفاق مؤرخي الأديان على أن المذهب الذي اشتهر في القرن الثامن عشر باسم «الديانة الطبيعية» - والذي يتلخص في الاعتراف بثلاثة أركان: «وجود إله خالق، وخلود الروح، وسلطان الواجب الأخلاقي» - ليس في الحقيقة دينا، ولم يكن يوما ما دينا من الأديان، بل هو نوع من الفلسفة الجافة، ينقصه قيام هذه الصلة الروحية بين الخلق والخالق، ليستحق اسم الدين.
والمظهر الثاني من المظاهر العملية للفكرة الدينية هو ميلها إلى التدفق في الميدان الاجتماعي، ذلك أن طبيعة العقيدة كريمة فياضة، تنزع دائما إلى الانتشار وطلب المشاركة، وتهز صاحبها إلى تحقيق أهدافها بالنشر والدعوة. بينما الفكرة العلمية أو الفلسفة تميل - ككل ثروة إنسانية - إلى الاحتجاز والاحتكار والاستئثار، أو على الأقل لا تسعى بطبعها لهذا التوسع، ولا يعنيها أن تصبح في متناول الجمهور.
ولعلنا لا نسيء التعبير إذا قلنا: إن الاختلاف بين هاتين الطبيعتين كالاختلاف بين الديموقراطية والأرستوقراطية، فإذا رأينا فيلسوفا يدعو إلى مذهبه، ويحمل الناس على اعتناق رأيه؛ علمنا أن فكرته قد أصبحت إيمانا، وأنه قد خلع ثوب الفيلسوف ليحمل أعباء الأنبياء والمرسلين، وإذا رأينا متدينا ينطوي على نفسه، ولا يبالي بما يجري حوله من ضلال في الرأي، أو فساد في العمل؛ كان لنا أن نحكم بأن نار إيمانه قد استحالت رمادا، أو أنها قد كمنت تحت أكداس من الرماد.
هذه كلها وجوه من النظر يستبين بها حدود ما بين الفلسفة وبين الأديان بوجه عام.
فإذا انتقلنا إلى المقارنة بين الفلسفة وبين الأديان السماوية بخصوصها، فإننا نظفر - فوق ذلك كله - بعنصر جديد، به يتم الفصل بين هاتين الحقيقتين.
ذلك أن الفلسفة في كل عصورها «عمل إنساني» يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإنسان من قيود وحدود، وتدرج بطيء في الوصول إلى المجهول، وقابلية للتغير والتحول، وتقلب بين الهدى والضلال، واقتراب أو ابتعاد عن درجة الكمال.
صفحة غير معروفة