ننتقل إذن إلى فرق آخر:
يرى ابن سينا أن الدين والفلسفة، مع اشتراكهما في تعريف «الحق» و«الخير» يختلفان في مبلغ عنايتهما بهذين الأصلين، ويقول: «إن الشريعة الإلهية يستفاد منها مبادئ الحكمة العملية وحدودها على الكمال، أما الحكمة النظرية فإن الشريعة تعنى بمبادئها فقط على سبيل التنبيه، تاركة للقوة العقلية أن تحصلها بالكمال على وجه الحجة.»
6
نقول: هذا الفرق - على عكس الفرق الذي حكاه الفارابي - ينطبق بوضوح على الشريعة الإسلامية؛ فإنها نبهت على مبادئ الحكمة النظرية تنبيها رقيقا، وبينت الحكمة العملية بكمالها. ولكن هل ينطبق ذلك على سائر الشرائع الإلهية، فضلا عن الديانات الأخرى؟ كل ما يمكن أن يقال هو أن عناية الأديان في جملتها بالناحية العملية أشد منها بالناحية النظرية، ولكننا نعرف من مدارس الفلسفة أيضا ما يغلب عليها - أو يكاد يستأثر بها - هذا العنصر العملي. فلا يصلح ذلك فارقا كافيا لتمييز ماهية الدعوة الدينية عن التعاليم الفلسفية بصفة مطردة. (3-3) آراء علماء الغرب
أما علماء الغرب اليوم فيرون الفرق بين الدين والفلسفة من الوجوه الآتية: (1)
مشاكل الفلسفة يناط حلها بالأفذاذ من ذوي العقول الراجحة، بينما مسائل الدين - في زعمهم - تحلها الشعوب والجماهير، قالوا: ولذلك كانت نشأة الأديان، وحياة واضعيها، والظروف التي ألفت فيها كتبها؛ غامضة مدفونة في ظلمات التاريخ، ولا كذلك الآثار الفلسفية. (2)
الدين يرثه الشعب عن أسلافه، والفلسفة يستمدها الفيلسوف من عقله ومن ملاحظاته الشخصية، ولو خالفت العقائد الموروثة. (3)
الفلسفة متجددة، والديانة تميل إلى الثبات وعدم التطور؛ لأن الجماعات لا تقبل أن تغير عقيدتها كل يوم، أو أن تعيد النظر فيها من جديد، ولا سيما إذا كان كتاب العقيدة مفروضا فيه أنه كلام الرب المعبود. (4)
الديانة لها في المجتمع مكان الصدارة؛ لأن لها الأسبقية وتقادم العهد، الذي مكن لها من الرسوخ في القلوب؛ لأنها عقيدة الجمهور، وفي متناول عقليته. (5)
الدين لا يستغني عن مظهر اجتماعي، في حفلات يومية، أو سنوية، أو موسمية، يوثق بها الأفراد أواصرهم الطائفية، كما أن الفكرة الدينية بحاجة إلى التجسد في صور معينة، ورسوم محددة، يجدد بها المتدين عهده بعقيدته، التي هي دائما عرضة للنسيان، من جراء المشاغل الحيوية المادية، بينما الفلسفة لا حاجة بها إلى هذه المحافل؛ لأن عقيدة الفيلسوف حاضرة في نفسه في غالب الأمر، كما أنها لا يصح أن تتمثل في رسوم عبادة معينة؛ لأنه لا شيء من تلك الصور المحددة يفرضه العقل فرضا، بحيث يكون الخروج عنه شذوذا في التفكير، ولو التزم الفيلسوف شيئا من هذه الأوضاع الخاصة، وجعله شعارا لفلسفته لخرج إلى ضرب من الهزل والمجون، حري أن يسخر منه. (6)
صفحة غير معروفة