ولكنه مع ذلك لا يحتوي كل العناصر التي يتألف منها هذا المفهوم؛ إذ لو كان كل شعور بالخضوع الكلي والتبعية المطلقة لقوة قاهرة أيا كانت - وأيا كان لون الخضوع لها - يسمى دينا، لكان أحق الضرورات بهذا الاسم حاجتنا إلى التنفس والغذاء، واستسلامنا التام لقوانين النقل والجاذبية وسائر العوامل الكونية، ولا قائل بذلك.
يجب إذن أن نتابع البحث، لمعرفة الفوارق والمميزات التي تجعلنا نسمي نوعا من الخضوع دينا، ولا نسمي نوعا آخر منه بهذا الاسم.
وإن التحليل الدقيق لنفسية المتدين يكشف لنا نوعين من هذه الفوارق والمميزات:
أحدهما:
في صفات الشيء الذي يقدسه المتدين ويخضع له.
والثاني:
في طبيعة هذا الخضوع.
فهلم بنا ندرس هذين النوعين: (2) أولا: العناصر الموضوعية
أول ما يواجهنا من الفروق بين الخضوع الديني والخضوع اللاديني يتمثل في مجموعة الصفات التي يحدد بها المتدين موضوع خضوعه ومناط تقديسه الديني، ويميزه بها عن سائر الأشياء التي يعظمها ويخضع لسلطانها.
كلنا نقدس معنى الشرف، والعرض، والحرية، والكرامة، وما إلى ذلك من المعاني الإنسانية النبيلة؛ وكلنا نشعر بالخضوع والطاعة القهرية لقوانين الكون وسننه الثابتة التي لا نستطيع أن ننقضها أو نبدلها لكن الشيء الذي يقدسه المتدين ليس من جنس تلك المعاني العقلية المجردة، وليس من قبيل هذه التصورات الشائعة المبهمة؛ ذلك أن المتدين يهدف بتقديسه إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان، وإن كانت تعبر عنها الأذهان فإنها في هذا التعبير تشير إلى ذات مستقلة، قائمة بنفسها ليست مجرد عرض من الأعراض أو لقب من الألقاب، هكذا ينفصل منذ البداية موضوع العقيدة الدينية عن هذا الضرب من المعاني المقدسة، من حيث إن الصلة بين المقدس عند المتدينين هي قبل كل شيء صلة بين ذات وذات، لا بين ذات وفكرة مجردة أو تجريدية كما في الأمثلة التي أسلفناها. (2-1) الإله ذات، لا فكرة تجريدية
صفحة غير معروفة