5
فذكر في أول الآية وحيه إلى نوح والنبيين من بعده، ثم خص موسى من بينهم بالإخبار بأنه كلمه، وهذا يدل على أن التكليم الذي حصل له أخص من مطلق الوحي الذي ذكر في أول الآية، ثم أكده بالمصدر المفيد تحقيق النسبة ورفع توهم المجاز، قال الفراء: «العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما، بأي طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام.»
ويذهب ابن قيم الجوزية في كتابه «مدارج السالكين» إلى أنه يمكن جعل الوحي قسما من أقسام التكليم وجعله قسيما للتكليم باعتبارين؛ فإنه قسيم التكليم الخاص الذي يكون من الله لعبده بلا واسطة بل منه إليه، وقسم من التكليم العام الذي هو إيصال المعنى بطرق متعددة.
وعلى هذا فالوحي قسم من كلام الله العام الذي جاءت به آية الشورى، وهي الآية التي جعلت كلام الله لعباده على ثلاثة أنحاء لا يجاوزها.
وقد ذكر المفسرون في تأويل هذه الآية أنه ما صح لأحد من بني آدم أن يكلمه ربه إلا على أحد ثلاثة أوجه؛ إما على الوحي، وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، وإما على أن يسمعه كلامه ولا يراه من غير واسطة مبلغ، كما كلم نبيه موسى - عليه السلام - وإما على أن يرسل الله من ملائكته رسولا - جبريل أو غيره - فيبلغ ذلك الملك إلى المرسل إليه البشري ما يشاء الله من أمر ونهي وغير ذلك، وقيل: إن معنى قوله «وحيا» أن يوحي إلى الرسل عن طريق الملائكة، ومعنى قوله: «أو يرسل رسولا » أي نبيا كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم، وكثير من المؤلفين - كابن قيم الجوزية في كتاب «مدارج السالكين» وابن حزم في الفصل - يميل إلى جعل الآية مفيدة لتسمية القسم الأول والثالث وحيا، وتسمية الثاني كلاما بالإطلاق؛ وذلك لأن الثاني لا يسميه القرآن وحيا، وإنما «هو تكليم في اليقظة من وراء حجاب، دون وسيطة الملك، لكن بكلام مسموع بالآذان، معلوم بالقلب، زائد على الوحي الذي هو معلوم بالقلب فقط أو مسموع من الملك عن الله تعالى»، ويؤيد ذلك أن الآية وصفت القسم الأول بأنه وحي، وذكرت في الثالث فعل الوحي، ووصفت الثاني بأنه تكليم من وراء حجاب، ولعل كلام الطبري في تفسيره ينزع هذا المنزع.
أما الفخر الرازي فيرى: أن كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة وحي، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي؛ لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة، فكان تخصيص لفظ الوحي به أولى، وكون الأول وحيا ظاهر، وكذلك الثالث، أما الثاني فيستدل عليه بدليل أن الله تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحيا، قال - تعالى:
فاستمع لما يوحى .
6
ونحن إذا استقصينا مادة الوحي في القرآن وجدنا الاسم المصدري يستعمل في الدلالة على القسم الأول غالبا، ويستعمل أحيانا في تنزيل القرآن على النبي كما في قوله - تعالى:
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ،
صفحة غير معروفة