فنظر الحاضرون إلى حيث أشار الشيخ فشاهدوا أمامهم سهلا فسيحا لا يعرف الطرف آخره، وكان في هذا السهل ثلاثة بلدان جميلة البنيان محاطة من كل جهة بالحدائق والبساتين والحقول الصفراء من منظر الزرع تتخللها المواشي المختلفة وهي ترعى بحراسة فتيان وفتيات كانوا جالسين أفرادا وأزواجا وجماعات تحت الأشجار المثمرة أو في ظل بعض السياجات.
فقال الشاب بعد أن سرح طرفه في هذا المنظر البري، حقا إنه منظر بديع.
وكان المكان الذي يقيم فيه الشاب والشيخ مع بعض من الزائرين منزلا صغيرا في قرية صغيرة قريبة من «المدن الثلاث» وكانت هذه القرية في أول السهل على مقربة من النهر الجميل الذي كان ينساب في السهل انسياب الأفعى ليسقي زروعه وأشجاره، وقد سمى الناس هذه القرية «الدخول» أو قرية الدخول لأنها المدخل إلى المدن الثلاث، إلى تلك البقعة التي كان يحسبها الناس جنة الله في أرضه.
فبعد أن أمعن الشاب النظر قليلا في المدن الثلاث التفت إلى الشيخ وقال: هل تعرف يا عم تاريخ تأسيس هذه المدن بالتدقيق.
فأجاب الشيخ: كل الناس هنا يعرفون هذا التاريخ يا بني لأنهم لا ينسون ذكر ذلك الرجل الكريم والإنسان الذي لا مثيل له بين البشر، مؤسس هذه المدن ومنشئها، انظر إلى تلك الحديقة البعيدة الكائنة في وسط المدن الثلاث، هذه حديقته وقد أقام له فيها أهل هذه المدن تمثالا عظيما يحتفلون بتذكاره مرة في كل عام.
فقال الشاب: إنك تتكلم عن المرحوم الشيخ سليمان فاحك لي قصته وقصة تأسيس هذه المدن من أولها.
فسعل الشيخ قليلا وأصلح جلوسه فوق الوسادة ثم أخذ يقول: منذ نحو مائة سنة يا بني كان الشيخ سليمان فتى فقيرا يتيما يتجول في المدن يطلب عملا، فذاق في صباه كل أنواع العذاب في هذه الحياة، ومما كان يزيد عذابه نفسه الحساسة الكبيرة، طبقا لما قيل:
وأتعس الناس حالا من تكون له
نفس الملوك وحالات المساكين
ولكن يظهر أن العناية الإلهية يا بني لا تخص بعض هذه النفوس بالشقاء والنقم والعذاب إلا لمقاصد سامية، فإنه إذا كانت المصائب تسحق النفوس الصغيرة وتفل عزائمها فإنها تشدد عزائم النفوس الكبيرة لأنها تعلمها بالاختبار ما لا تتعلمه بسواه، فهي كالعود الطيب الذي لا تنتشر رائحته إلا متى مسته النار، أو كالزيت الذي لا يضيء إلا بالاحتراق، وهذا ما جرى للشيخ سليمان، فإنه بعد أن ذاق من مصائب الحياة ما ذاق في إبان الفقر والضيق لم تسمح له طبيعته الكريمة أن ينسى ذلك في أيام الثروة والرخاء.
صفحة غير معروفة