وإن سألتم لماذا يكون تأثير هذه الفتاة مع سكوتها أوقع في النفوس من تأثير ذلك الواعظ المتحمس مع كثرة كلامه؟ فأجيب: ذلك لأن هذه الفتاة تتمسك بأسمى مبادئ الدين ولا تلتفت إلى ما بقي، وأسمى مبادئ الدين التسليم والاستسلام إلى الخالق، وترك الدنيا لطلب ما وراءها لا للاستيلاء عليها وعلى عقول ساكنها، بماذا كبرت الأديان وشرفت وعظمت؟ هل كان ذلك بالحروب والسيوف والمدافع؟ كلا وإنما كان ذلك بدم الشهداء، أي بتسليم الإنسان نفسه إلى كبرياء المخلوق اعتمادا على عدل الخالق، وقد كان الخالق عادلا، فإن ذلك المسيحي الذي كان يحتمل كل عذابات الموت بسكوت وفرح وشكر لله لأنه اختاره ووجده أهلا لأن يتعذب من أجله، وذلك العربي الذي كان في واقعة اليرموك يهجم طالبا الموت مناديا «يا محمد أمتك أمتك»، قد أسسا في العالم أديانا عظمى وممالك كبرى، فكان انتصارهما عظيما. «فدماء الشهداء أيها السادة وظلامات المظلومين هي التي نصرت الأديان وجعلت على هامة الدين إكليلا من الجمال والسناء، فاحذروا أن ترفعوا هذا الإكليل عن هامة الدين، وإنكم لترفعونه عنها وتضعونه على هامة قوم غيركم يوم يصير الشهداء في صفوف غير صفوفكم، فينتقل يومئذ صولجان العظمة والجمال منكم إلى أولئك الذين تعادونهم وتعذبونهم، إذن لا تضطهدوا العلم والعلماء، ولا تفتروا عليهم، ولا تقاوموا العمال المساكين انتصارا لأصحاب الأعمال، فإن هؤلاء العمال هم شهداء العصر الحاضر، وارجعوا إلى الله في نفوسكم وإلى مبادئكم الأساسية التي منها درجتم فتنكشف لكم الحقيقة التي ننشدها معكم.
ولا تخشوا أن أقع في الخطأ الذي يقع فيه الناس عند طلبي التساهل والاعتدال منكم، فإنني أعلم أن التساهل الديني ليس سوى فرع من التساهل العمومي الواجب بين جميع الناس في جميع المعاملات، إذ ماذا يفيدنا أن نطلب التساهل الديني فنحصل عليه ثم يبقى التعصب والتصلب في باقي الأمور شديد البنيان راسخ الأركان، كلا، إننا نطلب التساهل المطلق، التساهل بكل فروعه؛ لأن هذا التساهل العام هو وحده الضربة القاضية على الحيوانية والأثرة البشرية، فالذي يفتخر بأنه متساهل في دينه لا يبغض غيره ولا يطلب ضرره بسبب مذهبه، ثم تراه ظالما في معاملاته الخصوصية فسمه متعصبا لا متساهلا، وهكذا يكون صاحب العمل الذي يظلم عامله متعصبا، والعالم الذي يتصلب برأيه ولا يحتمل رأي غيره متعصبا، وهلم جرا، فاطمئنوا فإنكم لستم وحدكم مصدر التعصب لأن للتعصب أنواعا متعددة.
ولكني أعتقد أنه يحسن بخدمة الله أن يكونوا البادئين بإقامة مملكة التساهل في الأرض وقتل روح التعصب على أنواعه، فساعدونا أيها السادة على محاربة الأثرة البشرية وحب الذات وإعادة الأمن والنظام إلى نصابه في البلاد.
وتوصلا لذلك علينا أن نبحث معكم في مسألتين: (الأولى) علاقة العمال بأرباب الأعمال، (والثانية) علاقة العلم بالدين.
أما المسألة الأولى فقد قرأت أقوال الفريقين فيها، فرأيت الغلو في الجانبين، فلتكن وظيفتنا أيها السادة التوفيق بين المصلحتين لا نصرة إحداهما على الأخرى.
وقد ألقيت إلى حضرة الرئيس حين دخولي إلى هذا المكان لائحة فيها عدة اقتراحات، أظنها كافلة بهذا التوفيق.
أما المسألة الثانية فحلها أسهل من حل المسألة الأولى، فإن العلم والدين إذا اختلفا في الطرق فإنهما يتفقان في الغرض، ذلك لأن غرض العلم والدين واحد وهو تحسين حالة الإنسانية وترقية شئون البشر، فما الموجب لجعل الواحد يناقض الثاني ويحاربه.
لا موجب لذلك سوى الأهواء والمصالح أيها السادة.
فلننبذ الأهواء والمصالح ولنتمسك بالمبادئ، والمبادئ توفق بيننا وإن اختلفنا في تفسير بعضها.
ولكن فاعلموا جيدا أيها السادة أنه لا سبيل للوفاق بين الفريقين إلا بتساهل الاثنين، فعلى الدين قبل كل شيء أن يتذكر أن العالم قد تغير وتبدل، ولذلك يجب أن يغير شيئا من مبادئه وقواعده القديمة، وعلى العلم أيضا أن يتذكر أن العالم قد تغير وتبدل ولذلك يجب أن يغير شيئا من مبادئه وقواعده الماضية، ذلك أن العدو الحقيقي للدين والعلم أيها السادة إنما هو الأثرة والشراهة والرغبة في الانفكاك من كل قيد، أو كما يقول بعضهم: «إعطاء الفرد مداه لإشباع كل قواه»، وما نتيجة هذا الأمر إلا استعلاء ذوي الفطر الدنيئة على ذوي الفطر السامية، أي تغلب صغار النفوس على كبارها لأن المواهب السامية والعواطف الكريمة المودعة في النفوس الكبيرة لا تعود نافعة لشيء ما دام الغرض من الحياة التمتع بما فيها من اللذات، وحينئذ يملك في الأرض أصاغر سكان الأرض، أعني الشرهين والحمقى والوقحين والمعتدين والظالمين، وينزوي الأكابر الحقيقيون في زوايا الإهمال يندبون سقوط كل ما هو جميل وجليل، ولا عزاء لهم حتى ولا بحياة أخرى، لأن أولئك يضحكون منهم ويخبرونهم أنها حياة وهمية.
صفحة غير معروفة