ولقد سمعت الخطيب الثاني يتهكم على العلم وأهله ويقول: إن أهل المال هم المحسنون إلى الهيئة الاجتماعية بقناطيرهم الذهبية، فهذه دعوى غريبة لأنني كنت أظن أن المال يسمم الآن هيئتنا الاجتماعية تسميما.
وليس سبب هذا السم المال نفسه ولكن الطريقة التي يستعمل بها، فإن طلاب المال لا غرض لهم في مصانعهم ومتاجرهم ومزارعهم سوى «ربح أكثر ما يمكن ربحه بكل الطرق» ولذلك نظلمهم إذا أردنا وضع قواعد أدبية ورمنا منهم حفظها في معاملاتهم، إن طلب المال والأدب لا يجتمعان، ولذلك قيل: «لا يعبد ربان: الله والمال»، وهذا بخلاف ما لو كانت تلك المصانع والمزارع والمتاجر في أيدي الحكومة، فإنه لما كان أساس كل حكومة عادلة الفضيلة المطلقة، وكان غرضها حماية الضعفاء لا جمع المال، فإنها تنبو بالطبع عن الروح التجاري الإفرادي الذي يسمم الهيئة الاجتماعية اليوم ويبث فيها روح الفساد بدل روح الإصلاح والإحسان الذي أشار الخطيب إليه.
وروح الفساد هذا ظاهر في كل مكان، فإن النفوس اليوم لم تعد تعرف نظاما غير الذهب، ولا فضلا لغير الذهب، ولا قيمة لغير الذهب، انظروا إلى أعمالهم لا تجدوا لها غرضا غير جمع الذهب والظمأ إلى الذهب، ولذلك صار كل شيء يشرى ويباع عندهم بالذهب، فالاستقامة والأمانة: كلام فارغ لأن المقصود جمع الذهب. الآداب والفضائل: حلية العاجزين لأن الحلية الحقيقة حلية الذهب، الضمير والذمة والشرف والمبادئ الأزلية والرفق بالناس ومحبة القريب وصنع الخير والله: دعنا منها كلها فما هي إلا حبائل نصبها الساسة والشارعون لإخضاع الشعوب، والحقيقة أن كل شيء دون الذهب. فما هذه الحالة الهائلة التي ترتعد منها فرائص الإنسانية أيها السادة، هذه هي جهنم الحقيقية، هذه هي الهاوية السافلة التي يلقون فيها كل ما هو محبوب وكل ما هو مقدس وكل ما هو جميل وكل ما هو عزيز عندنا، وهم يسمون هذا الأمر سعة وثروة وخيرات ونعما، وأما أنا فأسميها فظاعة وجنونا وهوسا وشراهة ونهما وقبضا على الهواء.
وقد قلت «قبضا على الهواء»؛ لأن طالب الذهب يرى وهو على فراش الموت في يومه الأخير في ساعته الأخيرة أنه سعى وتعب وجد عبثا؛ إذ ماذا عمل؟ وأي فائدة له مما جناه؟ هل كان يأكل كل يوم ألف كبش كما تهكم عليه اليازجي، أم كان يكتفي بكسرة من الخبز وقطعة من اللحم كما كان يأكل جاره الفقير، وما يعمل أولاده بتلك القناطير المقنطرة التي تركها لهم، هل ترى جمعها قطعة قطعة من كل طريق وبكل الوسائط ومن كل الجيوب لكي يرى عدم فائدتها في ساعته الأخيرة وعجزه عن أخذ شيء منها معه، وحينئذ يتمثل له الأشخاص الذين امتصها منهم في حياته، والدموع التي جرت من بعضهم، والغضب الذي ثار في بعضهم، والعرق الذي انصب من بعضهم في سبيل خدمته، فيرى أن حياته كانت حملا ثقيلا على البشر، وفي هذه اللحظة الأخيرة يفهم معنى قول المالي المشهور كارنجي غريبة الغرب: «سيأتي يوم يكون فيه كل غني يموت دون أن يفرق أمواله موصوما عند الناس بوصمة العار»، فيغطي حينئذ عينيه بيديه ويقول: لم يبق لي غير رحمة الله، ولكن الله لا يرحمه إلا إذا كان يهب في تلك اللحظة نصف ماله للفقراء والمساكين: أي أن يعيد نصف ماله للأمة التي أخذه منها. وعلى خلاف ذلك من لا يجعل غرضه في حياته مقصورا على جمع المال، بل يطلب غرضا أشرف موافقا لمصلحته ومصلحة الهيئة التي يعيش فيها معا.
وهذا الغرض الأشرف هو حفظ النظام في الأرض والمساعدة على حفظه، فإن البشر لا يمكن أن يعيشوا براحة في الأرض من غير شرائع تحكمهم، وهذه الشرائع منها سياسي وديني واجتماعي وأدبي، ومجموعها نسميه «النظام» أي الشريعة المطلقة التي تدخل فيها كل الشرائع، وحفظ النظام أول ما يجب على الإنسان الذي يستحق أن يسمى إنسانا، وكل من يخرق هذا النظام يخرج عن حدود الإنسانية، ولكن كيف يخرق هذا النظام؟ يخرق بطرق عديدة، فالصانع الذي يغش صناعته والزارع الذي يغش زراعته والتاجر الذي يغش تجارته إنما يخرقون ذلك النظام لأنهم يخدعون إخوانهم بني البشر ليربحوا منهم أكثر مما اعتادوا ربحه، وصاحب العمل الذي يستخدم العمال في عمله بأجرة قليلة بالنسبة إلى ربحه، وصاحب الأموال الذي يضايق مديونيه، والسيد الذي يسيء في معاملة مسوده لأنه لا يعظمه بقدر ما يريد أن يعظم، كل هؤلاء أيضا يخرقون حرمة النظام الاجتماعي لأن الرفق والرأفة أساس هذا النظام، فأنتم ترون أن «حفظ النظام» و«جمع المال» نقيضان لا يجتمعان وضدان لا يأتلفان، فأين ما قاله الخطيب من أن الهيئة الاجتماعية لا تستغني عن أهل المال.
كلا ثم كلا، إن الهيئة الاجتماعية تحتاج إلى المال لا إلى أهل المال، والمال متى عاد إلى صندوقه الحقيقي انحصر في يد الحكومة، أما الذين لا يمكن للهيئة الاجتماعية أن تستغني عنهم فهم أهل العلم، هم حفظة هذا النظام الذين نشير إليه، هم الذين يطرحون أنفسهم بين الإنسانية المقتتلة على حطام الدنيا وخزعبلاتها ليسمعوها كلمة المحبة والرفق والألفة، ويذكروها بزوال هذه الأباطيل، هم الذين يولدون فقراء ويعيشون فقراء مفتخرين بفقرهم لأن قناطير الأموال التي تجمع في الصناديق إنما تجمع من دماء بني جنسهم، إما من التسفل لأقويائهم أو الضغط على ضعفائهم، هم الذين تراهم مع فقرهم هذا مكتفين قنوعين يستنشقون براحة وهناء هواء جوهم النقي من جراثيم الرذائل والفظائع التي تسمم جو غيرهم، هم الذين يطبقون أعمالهم على أقوالهم فلا يظلمون ولا يخدعون ولا يتسفلون، فكأنهم أعمدة شامخة نصبها الله بيده الأزلية في هذه الأرض ونقش عليها فضائل أديانه بكتابات جديدة وطرق جديدة بعد أن فسدت الأعمدة الأولى التي نقشها عليها أولا بفساد قلوب الرجال الذين كانوا يحرسونها.
هذا ما يقال في العلم حافظ «النظام المطلق» في الأرض، بقطع النظر عما كان له من الفوائد العلمية كالاكتشافات والاختراعات التي أحيت التجارة والصناعة والزراعة ولولاه لما كانت الآن على جزء من تقدمها الحاضر.
فمن الغريب أن يهاجمنا أهل المال وينكروا فضل العلم ونعمته بعد كل ما صنعه العلم للهيئة الاجتماعية.
أما حكمكم في مشاكلنا هذه أيها السادة فليكن كما تشاءون ولكن علينا أن نذكركم بأن الدنيا كلها تنتظر حكمكم بشوق شديد لترى إلى أي درجة وصل العدل في الكرة الأرضية.
ولما جلس الخطيب تزحزح الشيخ الرئيس ونظر في ساعته ثم قال بصوت جهوري: إنني مسرور لأننا سمعنا أقوال الخطباء الثلاثة بكل هدوء وسكينة، فهل ترون أن نتباحث الآن فيها.
صفحة غير معروفة