R. Marett . يرى ماريت في كتابه
The Threshold of Religion ، الصادر في لندن عام 1909م، أن الميلانيزي يحس بحضور عالم فوق طبيعاني يتجلى كشيء خارق وغير مفهوم، يستثير الإحساس بالروع، ويجد الإنسان نفسه معه في علاقة غير اختيارية ولا يمكن دفعها. وهو يميز بين حالين للمواجهة مع العالم فوق الطبيعاني؛ حال إيجابي وحال سلبي، فيدعو الأول بالمانا، وهو الإحساس بفعالية ذلك العالم وآثاره في الإنسان ومظاهر الطبيعة، ويدعو الثاني بالتابو، وهو الإحساس بالجوانب الخطرة لتلك الفعالية واحتمالات الأذى الكامن فيها، وضرورة مراقبتها بحذر.
9
فإذا انتقلنا من جزر المحيط الهادي إلى أفريقيا السوداء، وجدنا أن الديانات الأفريقية رغم احتكاكها المبكر بديانات الحضارات الكبرى منذ عهد الفراعنة، وتلقيها لمؤثرات غريبة كثيرة، فقد حافظت على الملامح الأساسية للمعتقد الديني البدائي. ونحن نستطيع بالفعل أن نعثر في أساس كل الديانات الأفريقية على معتقد جوهري تقوم عليه بنية الدين الأفريقي المعقدة والمتشابكة الفروع والأغصان، وهذا المعتقد يتماشى ومصطلحينا اللذين اعتمدناهما حتى الآن؛ أي المجال القدسي والقوة السارية.
في جميع الديانات الأفريقية التقليدية، هناك اعتقاد بوجود عنصر غير مادي يسكن في الأشياء والكائنات المرئية كانت أم غير المرئية، هو نوع من القوة الحيوية التي تتوزع بهذا المقدار أو ذاك على كل عنصر من عناصر العالم. وهذه المقادير من القوى هي أجزاء متفرقة من قوة كونية عظمى تنبث فيما لا يحصى من الموضوعات. إن هذا الإيمان يجعل الأفريقي ينظر إلى الكون بمستوييه المنظور والغائب باعتباره كلا مترابطا ترابطا محكما من خلال نسيج القوى الذي يشده كشبكة مترابطة متماسكة؛ فلا شيء في هذا العالم يتحرك دون أن يؤثر بحركته على القوى الكامنة في الأشياء الأخرى، والقوى في توزعها غير المتساوي في الأشياء هي في حالة تعارض وتناقض دائم فيما بينها، إلا أن هذا التعارض لا يقود إلى اختلال النظام في العالم، بل إلى نوع من التوازن الدينامي الذي يقوم على الفعل المتبادل بين القوى المنبثة في العالم المادي-الروحاني. ولكن التوازن يضطرب أحيانا، خصوصا على يد الإنسان عندما يرتكب خطيئة أو رجسا طقسيا، وهنا يمكن إصلاح الخلل عن طريق التحكم الطقسي بمقادير الطاقة المتوزعة، وذلك بالأضاحي الدموية التي تحرر القوى الحيوية من الأضحية.
10
إن كل عنصر في العالم هو متلق ومخزن ومرسل للقوة. ويمتلك السحرة بشكل خاص مقدارا عاليا من هذه القوة؛ وذلك بسبب إمكانياتهم الفطرية أو المكتسبة على اجتذاب القوة واستخدامها في سبيل الخير أو الشر. ومثل السحرة أيضا الملوك والزعماء وبعض الشخصيات الاستثنائية، فهؤلاء يمتلكون مقدارا أكبر من القوة يجعلهم في وضع متميز. هذه الفكرة الأفريقية عن هرمية القوى في الكون وتوازنها الناجم عن دينامية داخلية، تعارض المفهوم المتعارف عليه في الحضارات الكبرى عن عالم مستقر تم تنظيمه على يد خالق ضليع في عمليات الحساب، وهي تقترب كثيرا من المفاهيم الحديثة عن المادة باعتبارها تجمعا لقوى عرفنا كيف نحررها ولم نتعلم بعد السيطرة عليها.
في الكونغو، تسمي شعوب منعطف النهر هذه القوة إيليما، وهم يعتقدون أنها موجودة في كل مكان، ولكنها توجد بشكل خاص في بعض الأماكن المقدسة، كما أنها تتوضع في أماكن معينة من جسم الإنسان مثل الشعر والعين والكبد، وبصورة خاصة في الدم. كما تتركز القوة في الاسم، ومن هنا تلك الهالة السحرية التي تحيط بالاسم عند الأفريقي؛ فقد بلغ الأمر لدى بعض القبائل حد إبقاء الاسم الحقيقي لكل فرد طي الكتمان حتى لا يطاله ساحر شرير بالأذى. وتطلق شعوب البامبا والدوغون على القوة اسم نياما، وهم يعتقدون أنها تكمن في الأضحية. وترى شعوب الديولا إلى العالم على أنه هرم من القوى يأتي الإله الأكبر في قمته بينما يحتل البشر قاعدته، ويلعب حشد الجن دور الوسيط حيث ينظمون سريان القوة بين العالمين، وهذا يعني أن الديانات الأفريقية لا تستبعد الآلهة المشخصة أو الكائنات الروحية الأخرى؛ وذلك بسبب احتكاكها المبكر بالحضارات الكبرى التي تلعب الكائنات الإلهية فيها دورا واضحا، غير أن الآلهة الأفريقية بقيت أقرب إلى القوى غير المشخصة، فهي حيادية من الناحية الأخلاقية، ويمكن للطقوس التي يمارسها الاختصاصيون أن تجبرها على تحقيق الغرض الذي من أجله أقيم الطقس، لا نستثني من ذلك الإله الأكبر نفسه، الذي يبدو كقوة عمياء لا كأب عادل منصف؛ فالخير والشر والعدالة ليست من اختصاص الآلهة، والديانات الأفريقية لا تتصل بالأخلاق. •••
إن ما أوردناه أعلاه من أمثلة عن معتقدات شعوب بدائية تنتمي إلى أربع قارات، كاف لإظهار أوجه التقارب والتشابه بين المعتقد البدائي الحديث ومعتقد العصر الحجري. لقد اعتقد الباحثون طويلا أن إنسان ما قبل التاريخ (ومثله إنسان الثقافات البدائية) كان محكوما بحواسه، وأن علاقته مع العالم لم تكن تخرج عن حدود مجابهته الحسية المباشرة مع ظواهره، وبنوا على هذا أن تصور الإنسان لعالم الإلهيات قد ابتدأ مع خلق ألوهات مشخصة أو كائنات روحية متفوقة. ولكننا استطعنا، حتى الآن، أن نثبت أن الدين لا يبتدئ مع الآلهة، وأن المعتقدات الأولى التي كونها الإنسان نتيجة إحساسه بالعوالم القدسية غير المنظورة ، إنما تدور حول مفاهيم عالية التجريد، وشديدة الاتصال بالواقع في الوقت نفسه. يقول أحد حكماء قبائل الداكوتا في معرض شرحه لمعتقد الواكان، للباحثة فليتشر، ما يلي: «إن كل متحرك لا بد له من التوقف هنا أو هناك؛ فالطائر في طيرانه يتوقف ليصنع له عشا، والإنسان عندما يمشي يتوقف أينما أراد، وكذلك الواكان كان له توقفات؛ الشمس البهية المضيئة نجمت عن مكان توقف عنده الواكان، وكذلك الأشياء الأخرى من حيوانات وأشجار وما إليها، كلها نجمت عن مكان توقف عنده الواكان. وإن الهندي عندما يرسل صلاته يفكر في هذه الأمكنة التي توقف عندها الواكان من أجل الحصول على العون والبركة.»
11
صفحة غير معروفة