وهناك أمر ملفت للنظر في اللوحات الجدارية، وهو خلو المشهد الحيواني من أية خلفية طبيعية، أو عنصر آخر يمت إلى عالم الطبيعة بصلة. فلا وجود لشمس أو قمر، ولا لصخرة أو شجرة أو نهر، ولا لأرض تخطو عليها هذه الهيئات الحيوانية، أو أفق يحدد موقعها، ورغم ذلك فإنها لا تبدو كمن يسبح في الفراغ، بل متمكنة من نفسها ومتوازنة على خلفية غير مرئية. ومع أن الفنان قد عني عناية فائقة في تظليل الكتل المرسومة، وإبراز معالمها من خلال تداخل النور والظل، إلا أن هذه الكتل ذاتها لا تلقي ظلا على الأرض، وكأنها تتحرك في حيز لا مكان فيه للنور والظلام بمفهومهما المتعارف عليه. كل ذلك يعطينا الانطباع بأننا لسنا أمام مشهد من مشاهد الطبيعة التي نعرفها، وأن الحيوان المصور ليس جزءا من الحياة البرية لإنسان ذلك العصر، ولكنه جزء من مجال آخر وعالم مواز آخر. إن جو الجلال والروعة الذي يحيط بهذه الثيران والأفراس المندفعة بقوة لا تنتمي إلى هذا العالم، أو التي تتكتل على نفسها منطوية على قدرة جبارة توشك على الانفلات، لترتفع بها أمام أنظارنا اليوم إلى مستوى القداسة التي تشع من الأيقونات البوذية أو المسيحية. أما الجو المحيط بها فيعطينا إحساسا شبيها بإحساسنا عندما ندلف لأول مرة إلى كاتدرائية قوطية. من هنا فإن الحديث عن دين خاص بالباليوليت الأعلى، لا ينبع من أي تخيل أو إسقاط، وإنما ينبع من هذه الأماكن نفسها، ومما توحيه للإنسان العاقل اليوم، الذي لا يختلف في أساسيات بنيته النفسية والفكرية عن الإنسان العاقل الباليوليتي.
لقد كان إنسان الباليوليت الأعلى في هذه البقع القصية المظلمة، يبحث عن تواصل مع المجال الآخر، مع عالم اللاهوت، من خلال شارات قدسية تربط بين العالمين. وكما فعل إنسان الباليوليت الأوسط، فقد اختار إنسان الباليوليت الأعلى شارته المقدسة من العالم الحيواني، لا ليعبدها بذاتها، بل ليستحضر من خلالها قوة العالم الموازي. وتحولت كهوف الدب المتواضعة، التي اتخذها النياندرتال مقامات مقدسة، إلى كاتدرائيات نحتتها الطبيعة في الأعماق على حدود أوقيانوس المظلمة، وأقام فيها الإنسان العاقل نقاط تواصل مع المجال الآخر، من خلال هيئات حيوانية تلخصت بشكل رئيسي في الثور والبيسون والحصان. إن الجو فوق الطبيعاني الذي يملأ كهوف الرسوم الجدارية، والذي ما زلنا إلى اليوم نستشعر حضوره، قد خلقه إحساس الإنسان الباليوليتي الصافي بعالم اللاهوت؛ بذلك المجال القدسي الذي ينبث في الطبيعة الناسوتية، مثلما تنطلق هذه الحيوانات الحرة معبرة عن قدرة طاغية لا حدود لها.
ومما يؤكد الأغراض غير النفعية للكهوف، أن كل ما فيها يشير إلى أنها لم تستخدم قط لأي غرض دنيوي؛ فهنا لا وجود لعظام الطرائد التي يعثر عليها الآثاريون عادة في الكهوف السكنية، ولا أثر لنار المواقد، ولا دلالة على بقايا دفن. كل ما أمكن العثور عليه هو بقايا من أدوات الرسم مثل أقلام المغرة الحمراء، وبعض المصابيح الزيتية التي كان الفنان يرسم على ضوء فتيلها الباهت المتراقص. أما عن الطقوس التي كان يمارسها هنا، فأمر لن يمكننا معرفته أبدا. ربما كان يتأمل الشارة القدسية التي تكشف أمام عينيه القوة السارية، أو يقوم بحركات درامية من شأنها استمالة هذه القوة والتأثير عليها لتحقيق أغراضه، أو يأتي إليها بالجيل الجديد من الفتيان البالغين لتلقينهم أسرار الحياة الروحية للجماعة، وهم محاطون بأنسب جو لمثل هذه العملية. فإلى جانب الرسوم الجدارية المشبعة بالجلال والمشعة بالروعة، فإن الكهف في حد ذاته هو مكان موح بكل المشاعر والأحاسيس غير الدنيوية، والرحيل إلى تلك الأعماق التي تكاد أن تلامس رحم الأرض، يصحبه سفر روحي يودع معه المتعمق داخل الأنفاق صخب الحياة، ويقترب من بؤرة اتصال بعوالم سرانية غير منظورة. لقد كان إنسان الحضارات العليا بما اكتسبه من تقنيات معمارية قادرا على تصور وبناء هياكل كبرى، تستقطب أجواؤها التي يصطنعها معماريا انفعالاته الدينية وتعكس إحساسه بالمجال القدسي. أما إنسان العصور الحجرية، فقد كان يبحث عن هياكله الطبيعية في الأماكن التي تشع منها رهبة لا تصطنعها قباب أو سلاسل عقود عالية. ولعله كان يرتاد مثل هذه الأماكن بشكل عرضي وغير منتظم عندما فرضت عليه أجواؤها فكرة الرسوم الجدارية، وتحولت تدريجيا إلى مقامات مقدسة.
ولعلنا واجدون في القيمة الروحية لمواقع الكهوف في الحضارات اللاحقة، ما يلقي ضوءا على المعاني التي أوحت بها تلك الكهوف العميقة لإنسان العصر الحجري؛ ففي ميثولوجيات العديد من الثقافات التاريخية، يقوم الكهف رمزا للخلق والولادة؛ فهو المكان الذي صدرت منه الأجرام السماوية والجماعات البشرية الأولى، وبقعة مقدسة تشكل معبرا بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية. ولدينا بعض الأمثلة التي تدل على استمرار تقديس بعض الكهوف القديمة التي تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، عبر الفترات التاريخية اللاحقة، وبقاء مواقعها بمثابة نقاط لاتصال السماء بالأرض. فهرم الشمس الأكبر بموقع
Teotihucan
القديم بالمكسيك، وهو أضخم بنية معمارية في أمريكا الوسطى القديمة، قد تبين أنه بني فوق مقام ديني بدائي، وأن هذا المقام بدوره قد بني فوق كهف قديم ذي وظيفة دينية يتخذ شكل تويج رباعي، ويقع تحت مسقط رأس الهرم الأكبر تماما. ومن دلائل استمرارية التاريخ الروحي بين الكهف القديم والهرم الذي ورثه، هو شيوع عنصر التويج الرباعي في الزخارف المنقوشة على الهرم، وهو الهيئة الطبيعية التي كانت للكهف، والتي بقيت في ذاكرة المعماري. ومن الممكن جدا أن أساطير شعب الآزتيك التي تروي عن صدور الشمس والقمر من أحد الكهوف، إنما تشير إلى هذا الكهف بالذات.
29
إن أول الأفكار الدينية قد تولدت عند الإنسان الأول من إحساسه بحضور بعد آخر للوجود يتخلل عالمنا ويفارقه في الآن نفسه. ويعبر هذا البعد فوق الطبيعاني عن نفسه في الطبيعة، من خلال فيض قوة مقدسة تصدر عنه وتنبث في كل مظهر طبيعاني، وهذه القوة هي أقرب إلى السيالية الطاقية التي تتجلى آثارها بشكل مادي وتتبدى تحت العديد من الأقنعة، وفيها نجد تفسير كل حركة في الكون وكل طاقة ظاهرة آثارها. وهكذا فنحن هنا أمام مفهوم ديني ذي شقين؛ فهناك أولا البعد القدسي للوجود، عالم اللاهوت الموازي لعالم الناسوت، وهناك قوة عالم اللاهوت التي تجمع وتوحد بين العالمين. فإذا أخذنا اكتشاف لوروا غورهان عن جدلية الرموز الأنثوية والذكرية بعين الاعتبار، قلنا إن القوة السارية في العالم الفيزيائي هي ذات طبيعتين؛ طبيعة مؤنثة وطبيعة مذكرة، وإن الجدل بين هاتين الطبيعتين هو الذي يعطي القوة السارية فعاليتها. وهذا ما يضعنا أمام النموذج الأصلي لتصورات القوة في بعض الحضارات الكبرى اللاحقة، وخصوصا الحضارة الصينية. لقد وجد الفكر الصيني أن في الكون محركا أولا قوامه قوتان متعارضتان ومتعاونتان في آن معا، هي قوة ال «يانغ» الموجبة، وقوة ال «ين» السالبة، ورأى أن كل مظهر مادي ليس إلا تفاعلا بين كميات محددة بدقة من هاتين القوتين. وهذه الفكرة في الحضارة الصينية متجذرة في تاريخها البعيد، وعبرت عن نفسها في الفكر الديني والدنيوي منذ مطالع التاريخ الصيني المعروف.
ولكن، هل عقلن الإنسان الأول ما ننسبه إليه من نظرات وأفكار؟ وهل قام بتداولها بالطريقة التي نصوغها هنا؟ والجواب على ذلك هو أن هذه الخبرات الدينية الأولية سابقة لكل تفكر وتدبر في العالم، والمواجهة بين الإنسان وعالم اللاهوت لا تنجم عن تجربة عقلية؛ لأنها في الأساس خبرة وجودية تفرض نفسها عليه بسبب استعداد فطري لتلقي الأثر الدينامي للمجال الآخر، بعيدا عن المفاهيم والصياغات العقلية. من هنا، فإن ناتج المواجهة يتحول إلى اختبار نفساني لوحدة وتكامل الوجود المدرك وغير المدرك، وهي وحدة لا تنبي عن نفسها للتأمل الذهني بل للعواطف والمشاعر. أما التعبير عن هذا الاختبار النفسي، فإنه قد تم ولا شك من خلال صياغات شتى؛ فلقد استخدم الإنسان الأول كما رأينا إمكانات الفن إلى أقصى مدى، وبطريقة قلما عرفت لاحقا، من أجل توصيل ذلك الإحساس بالمجال القدسي. أما الطقوس التي كانت تجري في كاتدرائيات الأعمال تلك، وأما الصياغة التواصلية للمعتقدات، فأمور لا يمكن حتى التفكير بإعادة بنائها.
الدمى العشتارية والقوة المؤنثة
صفحة غير معروفة