20
ومع أن برويل قد تخلى عن تفسيراته الأولى، إلا أن مدرسة السحر استمرت بفعل دفعاتها الأولى القوية، وصارت لأكثر من نصف قرن النظرية الوحيدة التي تدعي تفسيرا شاملا لفن الكهوف، وبلغ من سيطرتها أن معظم الباحثين في ثقافات ما قبل التاريخ، وفي تاريخ الأديان خاصة، كانوا يسوقون التفسير السحري وكأنه بدهية لا تتطلب تمحيصا أو مناقشة. نقرأ في كتاب معروف لأحد مؤرخي الديانات، جوزيف كامبل، ما يلي: «يبدو عدد من الحيوانات وقد غرست سهام في جنباته، وآخر قد ظهرت على جسده جروح مفتوحة من أثر الحراب. وهنا لا يسع المرء إلا أن يقارن مع ممارسات السحر الأسود الذي يستعين بصورة من الشمع للشخص المطلوب إيذاؤه، فيكتب على الصورة اسمه، ثم توخز الصورة بالإبر أو تترك لتذوب على النار.»
21
وفي كتاب معروف في تاريخ الفن، سواء في أصله الألماني أم في ترجمته الإنكليزية والعربية، يصل يقين المؤلف بالتفسير السحري حد العجب، وتثير الرثاء أحكامه الدوغمائية التي يطلقها حول افتقار إنسان الباليوليت الأعلى إلى الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح. يقول أرنولد هاوزر مؤلف الكتاب، مقتفيا إثر رائد الأنتروبولوجية البريطانية تيلور: «فماذا كان السبب والغرض الكامن من وراء هذا الفن؟ هل كان تعبيرا عن استمتاع بالحياة يلح على أن يسجل ويردد، أم إرضاء لغريزة التمتع بالتزيين ، أم كان له غرض عملي محدد؟ ... إن من الواضح أن كل شيء في عصر الحياة العملية الخالصة تلك، إنما يدور حول كسب العيش وحده، وليس هناك ما يسوغ القول بأن الفن كان يخدم غرضا آخر سوى أن يكون وسيلة للحصول على الغذاء. والواقع أن الدلائل جميعها تشير إلى أنه كان أداة لأسلوب سحري، وكانت له بهذا الوصف وظيفة عملية بحتة، تستهدف أغراضا اقتصادية مباشرة فحسب. ويبدو أنه لم يكن هناك أي عنصر مشترك بين هذا الفن وما نسميه اليوم بالدين، فلم يكن الإنسان وقت ذلك يعرف الصلوات، ولم يكن يعبد قوى مقدسة، ولم يكن هناك أي نوع من الإيمان يربطه بموجودات روحية تنتمي إلى عالم آخر؛ وبالتالي فقد كان يفتقر إلى ما يوصف بأنه الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح ... إن الصورة كانت هي التصوير والشيء المصور في آن واحد، وكانت هي الرغبة وتحقيق الرغبة في الوقت نفسه، ولقد كان صياد العصر الحجري يعتقد أنه قد استحوذ على الشيء ذاته في الصورة، ويظن أنه قد سيطر على الموضوع عندما يصور الموضوع.»
22
يمثل هذا المقطع لباب الفكرة الأساسية التي يدور حولها التفسير السحري لرسوم الكهوف. ورغم أننا نواجه في العديد من المؤلفات الحديثة بآراء تعتمد التفسير السحري، إلا أن الموقف الدوغمائي الذي طالعنا أعلاه قد قل مثيله؛ فلقد فضل المؤلف الاقتباس الحرفي عن تيلور، الذي غدت أفكاره مجرد تاريخ، بدل الاستنارة بالوقائع الجديدة حول رسوم الكهوف، وما يمكن أن تقوله بخصوص المعتقدات الدينية لإنسان الباليوليت الأعلى. إن المعلومات الإحصائية الناتجة عن دراسة مائة كهف أو تزيد، في المنطقة الكانتربيرية وبعض امتداداتها، تفيد بأن عدد الرسوم التي تمثل حيوانات جريحة أو مطعونة، لا يزيد عن 15٪ من مجموع الرسوم التي تعد بالآلاف.
23
ولا أدري كيف استطاعت هذه النسبة الضئيلة أن تأسر انتباه الباحثين، وحتى المعاصرين منهم، وتوجههم إلى صياغة نظرية في تفسير رسوم الكهوف على أساس سحري.
ومن ناحية أخرى، إذا كان فن الباليوليت الأعلى يقوم على السحر التعاطفي، وعلى فكرة ارتباط الأشياء بعلائق ثابتة يمكن معرفتها، وتعلم كيفية التأثير فيها دون واسطة من قوى غير منظورة، فلماذا وضعت هذه الرسوم على حافة الصمت في أعماق معتمة لا يصل إليها إلا كل راغب وقادر؟ ولماذا أحيطت بهذا الجو الذي يوحي بكل ما هو فوق طبيعاني، طالما أن «السحر التعاطفي يفترض أن الأحداث في الطبيعة يتلو بعضها بعضا بشكل حتمي ودون تدخل من قوى خارجية، وأن الساحر يتوقع امتثال النتائج المرجوة، بالضرورة، للإجراءات الطقسية التي يقوم بها طالما اتبع الوصفة السحرية الصحيحة»، على حد تعبير جيمس فريزر؟
24
صفحة غير معروفة