لم يغفر العسكريون والأمراء للفرعون قط ضياع أراضي الإمبراطورية في الخارج، ويبدو أن هؤلاء قد تحالفوا مع الكهنة، وأخذوا يدبرون خطة لإقصاء أخناتون والقضاء على دينه، الذي كان سببا لضياع هيبة مصر وتآلب أعدائها عليها في مناطق النفوذ القديمة. وقد أفلح المتحالفون أخيرا في إحكام الطوق على أخناتون، الذي أخذ يشعر بالعزلة بعد تفرق الأتباع والمؤيدين تدريجيا؛ فعامة الناس لم تكن مهيأة لمثل هذا الانقلاب المفاجئ على دين تضرب جذوره عميقا في التاريخ المصري، أما خاصة القوم من المقربين إلى البلاط، فلم يتحولوا إلى الدين الجديد إلا طلبا للمكاسب أو حفاظا عليها، ولم يكونوا على استعداد حقيقي للتضحية من أجل الفرعون. وقد انتهى النزاع سلميا بموافقة أخناتون على التنازل عن صلاحياته السياسية لزوج ابنته الكبرى، ثم اعتكف في بيته الصيفي حيث وافته المنية سريعا، ولم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره. وبعد وفاته مباشرة، شن الخصوم حملة واسعة على كل آثار الآتونية، فدمرت العاصمة في تل العمارنة حتى أساساتها، وتم محو اسم أخناتون عن كل جدار وعمود في طول البلاد وعرضها، كما محي اسمه عن تابوته وعن الصفيحة الذهبية التي تحيط بجسده المحنط، لكي تظل روحه هائمة محرومة من الراحة الأبدية. ولكن جثمانه، فيما عدا ذلك، قد عومل بطريقة لائقة، فنقل من مقبرته في العاصمة المهدمة، وأعيد دفنه في مقابر الملوك بمدينة طيبة، حيث تم العثور عليه سليما ومحنطا وفق الأصول دون أن يتعرض لانتقام أو أذى. وهذا يدل على أن الكهنة ومن عاضدهم قد أظهروا عدالة في الانتقام، فلم يلجئوا إلى العنف أو التصفيات الجسدية لأتباع الفرعون الذي لم يعرف العنف قط في حياته.
يعلمنا إخفاق الآتونية درسين هامين بخصوص الديانة الشمولية؛ أولهما أن الإيمان لا يفرض من أعلى وبقرار سياسي، بل ينبع من الأسفل عبر القاعدة الشعبية الواسعة، وثانيهما أن الإيمان الشمولي الذي لا يفلح بعد فترة وجيزة من اكتساب هذه القاعدة الشعبية، سوف يتعرض للهجوم المعاكس السريع والحاسم من قبل الخصوم الذين تم خلقهم وتغذية روح العداء لديهم.
بعد ألف وخمسمائة سنة تقريبا من وفاة أخناتون، يسجل لنا التاريخ محاولة أخرى لرفع إله شمسي إلها أوحد للكون، وظهور عبادة محلية حاولت شق طريقها لتكون دينا شموليا للعالم المتحضر، وبالاستناد إلى أقوى سلطان زمني في عصرها، وهو سلطان روما القيصرية. (2) إيلاجابال: الشمس التي لا تقهر
في نهاية القرن الثاني الميلادي، صعد عرش القياصرة في روما ضابط من شمال أفريقيا الفينيقية اسمه سبتيموس سيفيروس، ومعه زوجته السورية جوليا دومنة، التي اقترن بها عندما كان قائدا لفرقة عسكرية ترابط قرب مدينة حمص في سوريا الوسطى، وقد عرفت الأسرة الحاكمة التي أسسها سيفيروس بالأسرة السورية. قد أنجبت هذه الأسرة بعد مؤسسها ثلاثة من الأباطرة، بينهم باسيان الفتى صاحب المحاولة الجريئة الثانية لنشر ديانة شمسية شمولية، والذي طابق الرومان بينه وبين إلهه فدعوه «إيلاجابال».
2
كانت جوليا دومنة ابنة الكاهن الأعلى لمعبد الشمس في مدينة حمص، وهو سليل أسرة عريقة من الملوك الكهنة الذين حكموا المدينة قبل الفتح الروماني، وتسلموا بالوراثة كهانة ديانة شمسية تؤمن بإله أوحد يدعى «إيلاجابال»، عبده أهل حمص منذ أن بدأت أخبار هذه المدينة تظهر في التاريخ مع نهايات الألف الأول قبل الميلاد. ويبدو أن هذا الإله كان في الوقت نفسه محل تقديس الكثيرين من خارج المدينة؛ لأن معبده كان مهوى أفئدة الحجاج من كل حدب وصوب، يؤمونه لتقديم فروض الاحترام للحجر الأسود الشهير الذي كان رمز الإله الوحيد؛ إذ لم يعرف عن هذا الإله ظهوره في منحوتة أو رسم من أي نوع. بعد المناداة بزوجها سيفيروس إمبراطورا، رحلت جوليا دومنة إلى روما ومعها ثلة من أقربائها، وعلى رأسهم أختها الكبرى «جوليا ميساء»، التي زوجت ابنتيها «سهيمة» و«ممايا» إلى ضابطين سوريين، فأنجبت الأولى «باسيان» والثانية «الكسيان». وسيتتابع هذان على عرش القيصرية بعد وفاة «كركلا»، ابن جوليا دومنة من سيفيروس. ويدعو المؤرخ الشهير جيبيون هؤلاء النسوة بالأميرات السوريات.
عاشت الأميرات السوريات في فترة تميزت بنشاط ديني كبير في الإمبراطورية الرومانية، وبتلاقح وحوار الأفكار الدينية ذات الأصول المتباعدة والمتغايرة، وقد كن نشيطات في الشئون السياسية والدينية على كل صعيد، ويدغدغ خيالهن حلم كبير بالقضاء على الفروق الدينية في الإمبراطورية، وذلك بالسعي لكي يعتنق الجميع نوعا من التوحيد مؤسسا على عقيدة الشمس الحمصية وإلهها الأوحد. ولعلنا واجدون في سيرة الإمبراطورة دومنة أفضل مصدر عن الملامح العامة لعقيدة الشمس هذه ؛ إذ لا نكاد نرصد عملا من أعمال هذه السيدة أو موقفا من مواقفها لا يعكس معتقدها الديني ذا الطابع الإنساني الشمولي. لقد استخدمت دومنة مرضعة ومربية لابنها كركلا من الجماعات المسيحية التي كانت منبوذة من قبل المجتمع الروماني، وأتبعت ذلك باستخدام عدد متزايد من هؤلاء المسيحيين رغم اعتراضات الكثيرين من حولها. ويقول مؤرخ معاصر لدومنة عن سبب عداء المجتمع الروماني للمسيحيين في ذلك الوقت (ومن دون بقية العبادات الشرقية، التي كان العالم الروماني يزخر بها): إن المسيحيين كانوا يجاهرون بعدائهم وازدرائهم لكل العبادات السائدة، الرومانية منها والوافدة، وقد وجدت منهم دومنة كل تعصب وتحجر في المعتقد؛ الأمر الذي صرفها عن المسيحية بعد أن أنفقت وقتا في دراسة أفكارها وتعاليمها.
غير أن الكتاب الذي ألفه «فلافيوس فيلوسترات» بالتعاون مع جوليا دومنة وبإلهامها، يقدم خير دليل لنا على معتقداتها وعلى معتقد إله الشمس الحمصي من ورائها. ففي الكتاب الذي أسماه مؤلفه «حياة الحكيم أبولونيوس»، والذي ظهر بعد وفاة دومنة بوقت قصير، تشيع أفكار عن عالمية الدين وشموليته، وعن احترام جميع الأديان دون تمييز، كما تشيع فيه أفكار ومواقف مستمدة من الأناجيل، التي كانت معروفة ومنتشرة في ذلك الوقت، رغم تجنبه الإشارة إلى المسيحية وإلى الدين المسيحي، وقد ذكر المؤلف في مقدمته أن الكتاب قد أنجز بالتشاور مع دومنة، وأنه قد حاز على رضاها التام في صيغته الأخيرة قبل وفاتها.
ولقد عرف عن بقية أفراد الأسرة السورية اعتناق أفكار دينية عالمية، واتخاذ مواقف تقوم على معتقد يؤمن بوحدة الأديان، ولكن من دون الإشارة مباشرة إلى العبادة الشمسية في حمص. أما الإعلان الصريح عن عقيدة الأسرة السورية والتبشير بها دينا للإمبراطورية الرومانية، فقد جاء فور اعتلاء الفتى باسيان كاهنا أعلى لعبادة الشمس في حمص. وقد انتقل إليه المنصب بالوراثة، فتسلم مهام أعلى منصب روحي، ربما في بلاد الشام طرا، وهو ابن اثنتي عشرة سنة فقط. ويبدو من مسار الأحداث اللاحقة، أن باسيان لم يقبل منصب الإمبراطور إلا لكي يكون في وضع أفضل للتبشير بعقيدة الشمس الحمصية وإلهها «إيلاجابال»، الذي شاء مؤرخو ذلك العصر إطلاق اسمه على القيصر السوري، فصار اسمه إيلاجابال في السجلات الرومانية.
في المعركة الفاصلة التي جرت قرب أنطاكيا، بين القوات التي حشدتها جوليا ميساء لدعم حفيدها المطالب بالعرش وقوات المتآمرين من قتلة كركلا، مالت الكفة لصالح المتآمرين، وبينما كانت ميساء وابنتها سهيمة تشجعان الجنود المتراجعين وتحثانهم على الصمود، استل باسيان سيفه وانطلق بحصانه إلى الأمام ليقود بنفسه الهجوم؛ الأمر الذي حسم المعركة لصالحه، ودخل أنطاكيا حيث نودي به إمبراطورا وهو في سن الرابعة عشرة فقط. وقد عكس أول أمر إمبراطوري أصدره صورة عن مسيرة حكمه المقبل القائم على مبادئ روحية سامية؛ فلقد منع الجنود من نهب أنطاكيا المدينة التي وقفت إلى جانب المتآمرين، ونهاهم عن القتل والانتقام، وتعويضا لهم عن ذلك قام بدفع مبلغ من المال ساهمت المدينة المغلوبة بتسديد قسم كبير منه. وقد أظهر بعد ذلك بوضوح أن الشجاعة التي أبداها في معركة أنطاكيا، لم تكن من قبيل حب الحروب والرغبة في تخليد الانتصارات والأمجاد الشخصية، وإنما وقوفا إلى جانب الحق؛ فعندما جاءه من أراد إقامة نصب يكرمه وينقش عليه نعوت الإمبراطور وألقابه الحربية، على سنة السابقين له، نهاه عن ذلك قائلا: لا أحتاج إلى أن أذكر بألقاب الحرب وسفك الدماء، يكفي أن تكتبوا بأني رجل يتقي الله.
صفحة غير معروفة