أجاب الضيف الغريب وهو يهز رأسه برفق: «لقد رأيت الكثير منهم.» كان صوت الصبي حلوا ودافئا كلبن بقرة استحلب لتوه، ولكن كلماته جعلت الدم يسري باردا في عروق إندارا. ثم تابع الصبي: «نعم إندارا، يا طفلي العزيز، لقد عرفت أباك كاشايابا الرجل السلحفاة، سلف مخلوقات الأرض وسيدها، وعرفت جدك ماريشي، شعاع النور السماوي وابن برهما، كما أنني عرفت برهما الذي أنجبه فيشنو من برعم لوتس نما من صرته، وعرفت فوق كل هذا فيشنو، الكائن الأسمى الذي أسند عملية الخلق إلى برهما. أي ملك الآلهة، لقد رافقت انحلال الأكوان، ورأيت كل شيء يتلاشى مرة بعد مرة عقب كل دورة كونية؛ في ذلك الوقت المهول تذوب كل ذرة في الوجود في مياه الأبدية التي صعدت منها، كل شيء يعود إلى جوف أوقيانوس بلا قرار، عليه ظلمة فوق ظلمة، ولا أثر لكائن حي. آه ... من يستطيع أن يحصي عدد الأكوان التي عبرت وزالت، والخلق الذي تلاه غضا جديدا صاعدا من هيولى الغمر العظيم؟ من يستطيع أن يعد دهور الكون دهرا يتبع دهرا، بلا بداية بلا نهاية؟ ومن يستطيع أن يقطع لا نهايات المكان ليعد الأكوان الماضيات تجثم متراصة كونا كونا، وكل كون له إندارا خاص به وكذلك فيشنو وشيفا؟ ومن يعد الإندارات فيها إندارا إندارا، ممن حكموا في تلك العوالم الماضيات صعودا، واحدا إثر آخر، إلى عرش الألوهة، ثم هبوطا إلى عالم النسيان؟ أي مليك الآلهة، قد يوجد من يستطيع عد ذرات الرمل على الأرض، وقطرات الماء الهاطل من السماء، ولكن لن يوجد من يستطيع عد كل أولئك الإندارات الماضيات. وهذا أيها المليك ما يعرفه العارفون.»
وفي هذه الأثناء لاحظ الصبي على الأرض طابورا من النمل يقطع القاعة فيما يشبه الموكب العسكري، فتوقف محدقا به ثم أطلق ضحكة رنانة، ما لبث بعدها أن أطرق في سكون وتأمل. فقال إندارا متلعثما: «ما الذي يجعلك تضحك؟ من أنت أيها الكائن المتلفح بهيئة الغلام الخادعة؟» كان صوت ملك الآلهة الفخور متهدجا، وقد جفت منه الحنجرة والشفتان: «من أنت يا بحر المناقب المتستر وراء سديم مضلل؟» رفع الصبي رأسه وقال: «لقد ضحكت لمرأى موكب النمل هذا، ولكن لا تسل لماذا أضحكني مرآه؛ فوراء ذلك سر ينطوي على ثمر الحكمة، سر يجتث شجرة غرور هذا العالم، ولكنه مدفون في غياهب حكمة العصور، ونادرا ما يكشف عنه حتى للقديسين. إنه نسمة الحياة لأولئك النساك الذين تخطوا هذا الوجود الفاني، ولكنه مميت لأولئك المنغمسين في حمأة الرغبة والخيلاء.» قال هذا ثم أمسك عن الكلام وغرق في الصمت، فقال إندارا وقد زاولته الخيلاء واتضعت هيئته: «أيها الغلام البرهمي، لا أعرف من أنت، ولكنك الحكمة المتجسدة، اكشف لي عن سر العصور هذا، عن النور الذي يبدد الظلمة.» فلما رأى الصبي تغير هيئة الملك ورغبته الجادة في التعلم، أخذ يكشف له خفايا الحكمة: «لقد رأيت النمل منتظما في طابور طويل، كل نملة فيه كانت في عالم مضى إندارا، كل واحدة مثلك ارتقت إلى رتبة ملك الآلهة بفضل التقوى والأعمال الحسنة، ولكنها الآن، وبعد عدد من الولادات والتناسخات، صارت نملة مرة أخرى. انظر إلى هذا الجيش، إنه جيش من الإندارات السابقة، ذلك أن الأعمال السامية ترفع أهل الأرض إلى المنازل العليا السماوية، وحتى إلى منازل برهما وشيفا والمنزلة الأعلى لفيشنو، أما الأعمال الرذيلة فتهبط بهم إلى الدرك الأسفل، فيخرجون من رحم الخنازير وحيوانات الفلاة، أو يصيرون طيورا وحشرات وما إليها. بالأعمال تجني السعادة أو البؤس ، تصير سيدا أو خادما، بالأعمال تصير ملكا أو برهميا أو إندارا أو برهما، وبالأعمال أيضا ترد وحشا ضاريا. هذا هو جوهر السر، وهذه هي الحكمة التي تعبر بك خضم الجحيم.» بعد أن أنهى كلامه، تلاشى الصبي من مجلس إندارا، وعرف الجميع أنه لم يكن سوى الكائن الأسمى فيشنو.
وقف إندارا مذهولا يستعيد ما جرى أمامه وكأنه في حلم، ثم أخذ يشعر بتغيير عميق يجري في كيانه؛ لم يعد راغبا في المزيد من السلطان، ولا في المضي قدما لتوسيع قصره السماوي. استدعى المعماري العظيم فأثنى على مهارته وفنه، ومنحه هدايا ثمينة ثم صرفه لشأنه. لقد فتح الصبي عينيه ورمى الحكمة في قلبه، فلن يرضيه بعد الآن سوى التحرر والانعتاق. استدعى ابنه وعهد إليه بمهام الحكم، واستعد لحياة الزهد والتأمل. إلا أن زوجته المخلصة جزعت للقرار وهرعت إلى إله الحكمة والسحر تسأله أن يساعدها في إقناع زوجها لكي يعدل عما انتوى، فقام الإله بجمع الزوجين وراح يعدد لهما فضائل حياة الزهد والتقشف من جهة، وفضائل الحياة الدنيا من جهة أخرى، وصاغ حديثه بطريقه جعلت إندارا يعدل عن قراره ويختار الطريق الوسط بين الحياتين.
وهكذا تنتهي أسطورة إندارا وموكب النمل، على نحو يفتح أمامنا عالما غير مألوف من مفاهيم الزمان والمكان في الفكر الهندوسي. فالأكوان السابقات والتاليات تجثم في حيز واحد، وتتبدى متتابعة في زمان وعود أبدي، كلما انتهت دورة بدأت أختها، وكلما انحل كون وآل إلى الفناء متلاشيا في جوهر المطلق الأبدي، نشأ كون جديد يعيد سيرة سابقه الأولى. فتاريخ الكون لا يسير في زمن خطي باتجاه واحد، بل في زمن دوري ينتقل من النضج إلى الانحلال فإلى النضج مرة. هذا النوع من الوعي بالزمن يتخطى المدى الزمني لحياة الجماعات والأمم بل الجنس البشري كله، إنه زمن الطبيعة التي لا تعرف المئات والألوف من السنين، بل الدهور الجيولوجية والكونية.
في المعتقدات الهندية، تتألف كل دورة كونية من أربعة عصور، يتصف العصر الأول بالكمال في كل شيء، وينتصب فيه القانون الأخلاقي راسخا على أربع ركائز، فيه يولد الناس أخيارا ويكرسون حياتهم لأداء مهامهم وواجباتهم الأخلاقية على أكمل وجه، وهو أطول العصور الأربعة إذ يدوم ما مقداره 1728000 سنة (مليون وسبعمائة وثمانية وعشرون ألفا). في العصر الثاني، يبدأ الفساد بالتسرب إلى الكون وإلى المجتمع الإنساني، فهنا يتوجب على البشر أن يتعلموا الفضائل بعد أن كانت مغروسة في طبعهم، ويدوم هذا العصر ما مقداره 1296000 سنة (مليون ومئتان وستة وتسعون ألفا). يدخل العصر الثالث في فترة توازن حرجة بين النقص والكمال، ويهتز القانون الأخلاقي مستندا إلى ركيزتين فقط، ويدوم هذا العصر 864000 سنة (ثمانمائة وأربعة وستين ألفا). أما العصر الرابع المظلم فتسود فيه البغضاء، وتتغلب الرذيلة على الفضيلة، وتقوم المنازعات بين الأفراد والحروب بين الشعوب. يدوم هذا العصر 432000 (أربعمائة واثنين وثلاثين ألفا)، وهو أقصر العصور، ونحن نعيش اليوم في أحد هذه العصور السوداء، من إحدى الدورات الكونية الصغرى المدعوة ماها يوغا
Maha Yoga ، والتي يبلغ مجموع سنيها 4320000 سنة (أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألفا). أما الدورة الكبرى فتدعى كالبا
Kalpa ، وتتألف من ألف ماها يوغا؛ أي 4320000 × 1000 = 4320000000 (أربعة مليارات وثلاثمائة وعشرين مليونا)، وتؤلف يوما واحدا من أيام برهما، وتدور بملياراتها الأربعة كلما رمش فيشنو بعينه رمشة واحدة، وبعد أن تئول إلى نهايتها يليها ليل بطولها هو ليل برهما. ففي نهاية هذه الدورة الكبرى، وفي آخر لحظة من يوم برهما، تنشطر الأرض وتتداعى الأكوان بما فيها من بشر وكائنات حية وآلهة عائدة إلى الماهية القدسية الأبدية، ويهدأ نبض الزمن في ليل برهما الطويل، حيث ينام فيشنو على أمواج مياه الأبدية التي تؤلف جوهره، بعد أن امتص إلى جوفه الكون الذي صدر عنه. وفي أول لحظة من لحظات يوم برهما التالي، يولد برهما جديد من البرعم الذي ينمو من سرة فيشنو، ليقوم بخلق كون آخر، وتبتدئ دورة كونية كبرى جديدة.
7
والإله فيشنو هنا يلعب دورا مزدوجا؛ ففي نهار برهما ودوراته الكونية الصغرى هو الإله الأعلى المشخص، وفي الليل الذي يليه عندما تئول الأكوان إلى الفراغ الأعظم، يسفر عن حقيقته باعتباره براهمان المطلق الأبدي، ويسقط قناع فيشنو الوهمي مع ما يسقط من بقية العوالم السرابية التي آلت إلى رحم مياه الألوهة الأزلية. ولسوف نرى لاحقا كيف يتناوب فيشنو وشيفا على التقاط قناع الإله المشخص، ولعب الدور المزدوج في الميثولوجيا الهندوسية. ولكن ما الذي يحل بأرواح البشر والآلهة وبقية الكائنات التي كانت تلعب دورة التناسخ، عندما يصمت الوجود وينطوي المطلق على ذاته كأن شيئا لم يكن؟
عندما ترجع الأكوان إلى مصدرها في ليل برهما الطويل، فإن الأرواح التي فنيت أجسادها لا تفنى ولا تنعتق، بل تبقى في حالة سكون، غافلة عن نفسها ناسية أعمالها الماضيات. وعندما يبتدئ نهار جديد، تنتبه الأرواح وتحمل كل واحدة حمل أعمالها السابقة مجددا إلى دورة كاملة أخرى، فليل آخر، فنهار آخر، مليارات من السنين تعقب مليارات، حتى يحين وقت الخلاص إذا حان له وقت. وهذه الأرواح التي تتناسخ في الأجساد البشرية والإلهية والحيوانية وحتى النباتية، لا تنتمي إلى أصناف مختلفة، بل إنها من طبيعة واحدة، تنتقل من حجاب إلى حجاب، من حشرة إلى إنسان إلى إله أو بالعكس، حتى تحقق الانعتاق. وهذا الانعتاق لا يتحقق إلا انطلاقا من الشرط الإنساني، وحين تكون الروح متقمصة في إنسان، فالإنسان وحده من دون بقية المخلوقات هو القادر على تخليص الروح وتحقيق الانعتاق، أما الآلهة فإن عليها أن تنتظر فرصة تجسدها في إنسان لتستطيع من خلال حياة إنسانية كاملة أن تنفلت من دورة السببية الكبرى.
صفحة غير معروفة