التَّنازُع:
-١ حَقِيقَتُه:
التَّنَازع: أن يَتَقَدَّمَ فِعْلاَنِ مُتَصَرِّفَانِ أو اسْمانِ يُشبِهانِهِما في العَمَل، أو فِعْلٌ مُتَصرِّفٌ واسْمٌ يُشبهُه في التَّصرُّفِ ويتأخَّرُ عَنْهُما مَعْمُولٌ غَيْرُ سَبَبي مَرْفُوع، وهو مَطْلُوبٌ لِكُلٍّ مِنهما مِن حَيْثُ المعنى والطلب، إمَّا على جِهَةِ التَّوافُق في الفَاعِليَّة لَهُما أو المَفْعُولِيَّة أو مَع التَّخالُف فيهما بأن يكون الأوَّلُ على جهةِ الفَاعِليَّةِ، والثَّاني على جِهةِ المَفْعُولية أو بالعَكْس، والعَامِلان:
إمَّا فِعْلان، أوْ اسْمان أو مختلفان (وأمثلتها اثْنا عشر مثالًا: مثال الفعلين في طلب المرفوع "قَام وقَعَد الخَطِيبُ" ومِثالُهما في طَلب المَنْصُوبِ "أكْرَمتُ واحترمته زَيْدًا" ومثالُهما في طَلب أحَدِهما المرفوعَ والآخر المنصوبَ "قام وانتظرتُ زيدًا" ومثالهما في طلب العكس "انتظرتُ وقالَ زيدٌ" ومثال الاسمين في طلب المرفوع "أقائمٌ وقاعِدٌ الخَطيبان" ومثالهما من طلب المَنصوب "خالِدٌ مُعَلِمٌ ومُكرِمٌ عَليًا" ومثالُ= اخْتلافهما في الصورتين "محمد جاءَ ومُكرِمٌ أَبويه" وعكسُه "أحمدُ ذاهبٌ ووَاقِفٌ أَبَواه" ومثال الاسمِ والفعل في طلب المرفوع "أَقَائِمٌ أو قَعَد حَسنٌ" ومثالهما في طَلب المنصوب "زيدُ ضارِبٌ ويُكرمُ عَمْرًا" ومثال اختلافهما مع تقدَّم طلبَ المَرفوع "أقائمٌ ويَضْرِبُ عَمْرًا" وعَكْسُهُ "ضربت أو قائم زيد") .
مثال الفعلين قوله تعالى: ﴿آتوني أُفْرِغْ عَليه قِطْرًا﴾ (الآية "٩٦" من سورة الكهف "١٨". فـ ﴿آتونِي﴾ يَطلبُ قِطرًا، على أنه مفعولٌ ثانٍ له، و"أفْرِغ" يطلبُه على أنَّه مفعوله وأُعْمِل الثاني وهو "أفرغ" في "قِطرًا" وأعملَ "آتوني" في ضَميره وحَذَفه لأنه فَضْلَةٌ والأصل آتوني قطرًا، ولو أعمل الأول لقيل "أفرغه")، ومثال الاسمين قولُه:
عُهِدْتَ مُغِيثًا مُغْنِيًَا مَن أجَرْتَهُ ... فَلَم أَتَّهِذْ إلاَّ فِناءَك مَوْئلًا
(فـ "مغيثًا" من أغاث و"مغنيًا" من أغنى تَنازَعًا "مَن" الموصولة فكل منهما يطلبها من جهةِ المَعْنى على المَفْعولية، وأعملَ الثاني لقربه، وحذفَ ضمير المفعول من الأول، والأصل "مغيثهُ" و"المَوئل" الملجأ)
ومثال المختلفين قوله تعالى: ﴿هَاؤمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَة﴾ (الآية "١٩" من سورة الحاقة "٦٩" فـ "ها" اسم فعل أمر بمعنى "خذ" والميم للجمع و"اقرؤوا" فعل أمر تنازعا "كتابية" وأعمل الثاني لقربه) .
-٢ تعدد المتنازِع والمُتنازَع فيه:
كما يكونُ المتنازِع عامِلَين، يكونُ أكثرَ، والمتنازَع فيه كما يكونُ واحدًا يكون أكثرَ، ففي الحديثِ: (تُسَبِّحونَ وتُكَبِّرون وتحمَدُونَ، دُبَرَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثَلاثين) فتَنَازَعَ ثلاثة (الثلاثة هي "تسبحون وتكبرون وتحمدون") في اثنين: ظَرفٌ ومَصْدر (الظرف: "دبر" والمصدر "ثلاثًا" أي تسبيحًا ثلاثًا) .
-٣ يمتنعُ التَّنازُع في أشياء:
عُلِمَ أنَّ المتنازعَيْن، لا بُدَّ أنْ يكونا فِعْلَين أو اسمين مُشْتَقَّين، أو مُخْتَلِفَي الاسْمِيَّة والفِعْلِيَّةِ، فلا يَقعُ التَّنازُعُ بينَ حَرْفين، ولا بينَ حَرْفٍ وغَيْرِه، ولا في مَعْمُولٍ متَقَدِّمٍ نحو "أَيُّهُم كلَّمتَ واستَشرتَ" ولا في مُتَوَسِّط نحو "استقبلتُ عليًّا وأكرمت" ولا في سَبَبِي مَرفُوع نحو قول كُثَيِّر عزة:
قَضَى كلُّ ذِي دَيْنٍ فَوفَّى غريمَه ... وعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنَّى غَريمُها
(فـ "غريمها" مبتدأ ثان، والمبتدأ الأول "عزة" و"ممطول ومعنى" خبران للمبتدأ الثاني)
ولا في قول جرير:
فَهَيْهَاتَ هَيْهاتَ العَقِيقُ ومَنْ بِه ... وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بالعَقِيقِ نُواصِلُه
(الطالب للمعمول هنا هي "هيهات" الأولى، طلبت فاعلها وهو "العقيق" أما الثانية فهي لمجرد التقوية، فلا فاعل لها)
ومثله قولُ الشاعر:
فَاَيْنَ إلى أيْنَ النَجاةُ بِبِغْلَتي ... أَتَاكِ أَتَاكِ اللاحِقُون احْبِسِ احْبِسِ
"فاللاَّحِقون" فاعل "أَتَاكِ" الأَوَّل، و"أتاكِ" الثاني لمجرَّد التَّقْويةِ فلا فاعلَ له، ولو كانَ مِنَ التنازعِ لقال: "أتاك أَتوك" على إعمال الأولى، أو "أتوك أتاك" على إعمال الثاني.
-٤ يجوزُ إعمال أَحدِ العَامِلَيْن:
إذا تَنَازعَ العَامِلان جازَ إعمالُ ما شِئتَ مِنْهما باتِّفاق، لكِنْ اخْتَارَ البَصْريُّون الأَخِير لقُرْبه، واخْتارَ الكُوفيُّون الأَول لِسِبقهِ.
-٥ صور العمل في التَّنازع:
إذا أَعْملنا الأول في الظاهر المتنازَع فيه أعْمَلْنا الثاني في ضميرهِ مَرْفُوعًا كان أو مَنْصُوبًا أو مَجْرُورًا نحو "قامَ وقعدا أخواك" و"جاء وأكرَمْتُه محمَّدٌ" و"قام ونظرتُ إليهما أَخَواك" وأَمَّا قولُ عاتِكةَ بنتِ عبدِ المطَّلبِ:
بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظريـ ... ـنَ - إذا هُمُو لَمحُوا - شُعاعُه
فضرورة فقد أعمل الأول وهو يُعشِي، فَرفِع به شُعَاعُه، وعَمِلتْ "لَمَحُوا" في ضميره وحذَفَه، والتَّقدير: "لَمَحُوه" وإنْ أعْمَلْنَا الثاني: فإنِ احتاجَ الأولُ لمرفوع أُضْمِر، وإن عادَ الضميرُ على مُتَأَخِّر لَفْظًا ورتبةً، لامْتِنَاع حَذْفِ العُمْدة وهو الفَاعلُ، ولأَنَّ الإضْمارَ قد يعودُ على لَفْظٍ مُتَأَخِّر في غير هذا الباب نحو "رُبَّهُ رجُلًا (رجلًا: تمييز، ورُتْبَةُ التمييز التأخير والضمير في ربَّه، عائدٌ عليه وهو متأخر لفظًا ورتبة، ومثله "نِعْم فتىً" فتىً فاعل نِعْم يعودُ على "فتى" وفتى تمييز، فعاد على متأخِّر لَفْظًا ورُتْبَةً) ونِعْم فَتىً".
وجاء الإضمارُ قبل الذكر في التنازع من كلام العرب نثرٍ وشِعر، فالنَّثْر نحو قول بعضِ العرب "ضَرَبُوني وضَرَبْتُ قَوْمَك" بنصب "قَومَك" والشعر وكقوله:
جَفَوْنِي، ولم أجْفُ الأَخِلاءَ إنني ... لِغَير جَميلٍ من خَليليَّ مُهمِلُ
(فأنت ترى أنه أعْمل الثاني فنصَب الأخلاء وعَمْل الأول في الواوِ العائدةِ على الأَخلاء و"الأخلاء" جمع خليل)
وإن أعْمَلْنا الثاني، واحتاج الأَوَّلُ لمنصوبٍ لفظًا، أو محلًا (لفظًا: ما يصل إليه العامل بنفسه، ومحلًا: هو ما يتصل إليه العامل بواسطة حرف جر) . وجب حذف المنصوب لأنَّه فَضْلةٌ، وليس من ضَرورة فيها أن يَعودَ الضَّميرُ على مُتَأَخِّرٍ لَفْظًا ورُتْبةً، وأما قولُ الشاعر:
إذا كُيتَ تُرْضِيهِ ويُرْضِيكَ صاحِبٌ ... جِهارًا فكُنْ في الغَيبِ أَحْفَظَ للوُد
بإعمال الثاني وهو " يرضيك" وإضمار المفعول في الأَوَّل وهو: تُرْضيه، فهذا ضَرُورة عند الجُمْهور، ويُسْتثنى من إعْمال الثاني وإضمار الفَضْلةِ في الأوَّل صُورٌ ثلاث هي: إنْ أَوْقَعَ حَذْفُ المَنْصُوبِ في لَبْس، أو كان العاملُ من باب "كان" أو من "ظَنَّ" وجَبَ إضْمارُ المَعْمُولِ مؤخَّرًا، في المَسَائل الثلاث: فالأول نحو: "استعنتُ واستعانَ عَلَيَّ محمَّدٌ به" (فـ "استعنت" يطلب "محمّدًا" مجرورًا بالباء، والثاني يطلبه فاعلًا: لأنه استوفى معموله المجرور بعلى فأعملنا الثاني وأضمرنا ضمير محمّد مجرورًا بالباء مُؤَخرًا وقلنا "بِه" فمعنى المثال في غير التنازع "استعان عليَّ محمد واستعنت به"، ولو أضمرناه مقدّمًا قبل استعان، لقلنا "استعنت به واستعان عليّ محمّد" فيلزم عود الضمير على متأخر لفظًا ورتبة، وهذا لا يُتَساهل فيه بالتنازع إلاّ في الفاعل ولو حذفناه أَوقعَ في اللبس فلا يعلم هل "محمّد"مستعان به أو عليه) فلو حذف لفظ "به" لوقع اللبس.
والثاني: نحو "كنتُ وكان عَليٌّ صَدِيقًا إِيَّاه" "فكنتُ" و"كانُ" تَنضازَعا صديقًا على الخبريَّة لهما، فأَعْمَلْنا الثاني فيه، وأَعْمَلْنا الأولَ في ضميره مُؤخرًا.
والثالث: نحو "ظَنَّني وظَنَنْت خالدًا قائمًا إياه" "فَظَنَّني" يَطْلب "خالدًا قَائمًا". فاعلًا، ومفعولًا ثانيًا، و"ظننت" يَطْلبُ مفعولين، فأَعْملنا الثاني، ونصبنا "خالدًا قائمًا" وبقي الأوَّلُ يحتاجُ إلى فاعل، ومفعول ثان، فأضمرنا الفاعل مقدمًا مُسْتَتِرًا، وأضمرنا المفعول الثاني مُؤَخَّرًا، وقُلْنا "إيَّاه" ولم يُحذَف المنصوب في المَسأَلةِ الثانية والثَّالثة لأنه عمدةٌ في الأصل وأنَّه خبرُ مبتدأ.
1 / 220