ذو النورين عثمان بن عفان

عباس محمود العقاد ت. 1383 هجري
68

ذو النورين عثمان بن عفان

تصانيف

ولماذا تطمع القبائل أن تتداول الخلافة بعد خليفة من بني أمية، وهم أقدر على احتجانها وأرغب في الاستئثار بها بعد مآلها إليهم في صدر الإسلام؟!

كل هاتيك حيل مسرحية توضع لها أدوارها وأعمالها حسب منهاج التأليف. وأولاها بالشك فيه ما لاح عليه الإحكام والتوفيق بين الأدوار والأعمال، وأولاها بالقبول ما ليس وراءه تحضير ينتظم كما ينتظم التحضير في المسرحيات: شيء يراد وشيء لا يراد، ويعالجه فيستطيعه تارة ويعيي به تارة؛ فينقلب على غير ما تعمده وانتحاه.

وعلى هذا النحو المطبوع آلت الخلافة إلى عثمان.

الفصل العاشر

الخلافة

بين هذه النذر قامت أصعب خلافة تولاها خليفة قط في صدر الإسلام، وقد كانت ثورة المرتدين في أول خلافة الصديق محنة شديدة نهض لها المسلمون جميعا متساندين متآزرين؛ فابتلي عثمان في أول خلافته بما يشبه تلك الثورة ويزيد عليه: الخلاف في الداخل، والتغير في الدواعي النفسية، وهو أخطر المصاعب جميعا في خلافة عثمان.

كانت هيبة عمر تملأ الجزيرة العربية وما حولها، وكان أصحاب الدولتين الكبيرتين من الروم والفرس أهيب له من رعيته في الجزيرة؛ لأن هذه الرعية تعتصم من هيبته بحق يعرفه لها وتعرفه لنفسها، ولم تكن للروم والفرس عصمة من هيبته إلا بالحذر والدسيسة، ورستم بطل الفرس المشهور الذي كاد أن يصبح من أبطال الأساطير هو القائل عن عمر: «أحرق كبدي عمر، إنه يكلم الكلاب فتفهم عنه!» يعني أنه جعل من عرب البادية الذين ازدراهم الفرس أبطالا كالأسود بفضل ما يسدى إليهم ويستمعون إليه من نصيحته والاقتداء بسيرته، وقد خطر للمؤرخين في صدر الإسلام أن الهرمزان كان من المتآمرين مع أبي لؤلؤة على قتل عمر، وهو خاطر قريب إلى الذهن، ولو لم يعتمد فيه المؤرخون على غير القرائن التي شهد بها يومئذ شهود الفاجعة قبل وقوعها، ولكننا نحسب أن المؤامرة أكبر جدا من ظواهرها التي تحصرها في أبي لؤلؤة والهرمزان، وأن تدبيرها في معسكرات فارس وبلاط يزدجرد وحاشيته أقرب إلى الخاطر وأدنى إلى المنظور في مجمل الأحوال.

فما هو إلا أن ذاع في ساحات المشرق والمغرب مقتل عمر؛ حتى تلاحقت الثورات والفتن كأنما كانت على موعد، وتمرد من قبائل الفرس والترك والروم من كان قد أذعن وتعاقد مع قادة الحرب على الصلح والطاعة، ونقضت دولة الروم صلحا فأغارت على الإسكندرية برا وبحرا وأرسلت أساطيلها إلى شواطئ فلسطين، وأطلقت في الميادين خفية من يبث فيها الوعد والوعيد ويغري المطيع بالعصيان، وأحصى المؤرخون البيزنطيون عدة السفن والجيوش التي اشتركت في حركات الثورة والانتقاض فقال بعضهم: إنها جاوزت خمسمائة سفينة ومائة ألف مقاتل، وسرعان ما تسايرت الأنباء بهذه الزحوف بين الخزر والأرمن ومن وراءهم من الشعوب الآسيوية؛ فهبوا يتعللون بالذرائع لنقض الصلح، أو ينقضونه بغير ذريعة وينتهزون الفرصة التي علموا أنها لا تسنح مرة أخرى إذا استكانوا للطاعة المسالمة.

لقد كانت محنة كمحنة الردة أو أكبر منها في اتساع ميادينها وتباعد أطرافها.

وكان عثمان كفؤا لها بالعزم والرأي والسرعة في تصريف الأمور وتسيير النجدات وإسناد كل عمل إلى من يحسنه ويسد فيه أحسن سداد.

صفحة غير معروفة