كان ولي الأمر في ذلك المجتمع الوليد كفؤا لأمانة الخلافة إلى النفس الأخير من أنفاس حياته المباركة؛ فأوصى وصيته المحكمة التي نظر فيها نظرته الشاملة، ولم يدع فيها بقية لنظرة ثانية، ولكن الوصايا مهما يبلغ من إحكامها وإلزامها لا تنفذ بغير منفذين يقدرون على تنفيذها ويصدقون النية فيه، فلو لم يكن أصحاب الشورى وقائد الجند وإمام الصلاة في الأيام الثلاثة أهلا لأمانتهم؛ لما أغناهم حزم الخليفة الراحل شيئا في تلك المهمة المعجلة التي يوشك أن يفسدها كل خطأ في القيام عليها وكل تأخير عن موعدها، وقد أدى الخليفة واجبه وبقي واجب المنفذين الذين ائتمنهم على الأمة بعد حياته، فمن حقهم على التاريخ أن يسجل لهم أداءهم لواجبهم وتصريفهم لأمانتهم على أتم الوجوه الميسرة لهم في تلك المهمة المحرجة ... وفي زمرتهم قبل غيرها بعض محرجاتها، بل أعضل محرجاتها.
تنافسوا بينهم ولا جرم أقل من منصب الخلافة في الدنيا والدين يتنافس عليه المتنافسون، ومن المروءة أن يستشرف المرء إلى مقام الفاضل ويأبى لدينه ودنياه مقام المفضول، فإن لم يكن تنافسهم على مكانة عالية فهو تنافس يربئون به عن مظنة التخلف والقصور.
ثم ألهم أحدهم أول حل للمشكل تتبعه لا محالة سائر الحلول: واحد ينزع نفسه منها باختياره وينوب عن سائرهم في التوفيق بين المختلفين.
سبقهم إلى هذا الحل عبد الرحمن بن عوف، ولم يسبقهم إليه نزولا بقدره عن أقدارهم، بل نزولا به عن قدر الصديق والفاروق، فقد علم أن الرضى عن خليفة بعد هذين مطمع بعيد، ولم يشأ أن ينزل بنفسه منزلا لا يرضى له ولا يرتضيه.
ولم يخطر له أن يخلع نفسه بادئ ذي بدء قبل أن يرى منهم من عساه يصنع مثل صنيعه، فإن كان منهم من يخلع نفسه على أن يختار غيره فقد ضاقت بينهم شقة الخلاف، وإن لم يكن؛ فلينظر بعد ذلك فيما يلي خطوته الأولى من خطوات.
قال: «أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟» فلم يجبه أحد فقال: «فأنا أنخلع منها»، ثم تقدم إلى الخطوة التالية فلم يخطئها، ووصل منها إلى حصر الخلافة في واحد من اثنين: علي وعثمان.
لقي كلا منهما فأراه أنه يعلم حجته ودعواه، قال لعلي: «تقول يا أبا الحسن إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد في نفسك، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟» قال: «عثمان».
ولقي عثمان فقال: «إنك تقول: شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله وابن عمته، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟! لكن لو لم تحضر، فأي هؤلاء الرهط تراه أحق؟» فقال: «علي»!
وتختلف الروايات فيمن اختاره الزبير وسعد، ولكن الراجح منها أنهما ذكرا عثمان بشرط ولم يقطعا برأي في إيثار علي عليه.
فلما انحصر الترجيح بين عثمان وعلي؛ خرج يسأل من يلقاه من غير أصحاب الشورى؛ فيذكر له بعضهم عثمان وبعضهم عليا، ويزيد المختارون لعثمان على المختارين لعلي، وهو أمر لا غرابة فيه مع المعهود من طبائع الناس، وأنهم لا يجنحون إلى العظمة النابغة جنوحهم إلى الطيبة والسلامة، ولا ينفسون على الشيوخ ما ينفسونه على الفتيان والكهول.
صفحة غير معروفة