وذهبت إلى منزلي معتقدا أن لا داعي أن أجمع توقيعات لبيان لن يرسل إلى أية جهة.
وفي صباح الخميس ذهبت إلى بعض شأني، ثم ذهبت إلى مكتب الأستاذ السحار، وتذكرت أنني كنت طلبت من الأستاذ يوسف السباعي أن يعين شخصا ما من البلد، فأحببت أن أسأل سكرتيره حسين رزق عما تم بشأن هذا التعيين فطلبته، وأجابني عما سألته عنه، ثم أخبرني أن مكتب الدكتور عبد القادر حاتم سأل عن تليفوني، وأن الدكتور يريدني. طلبت بيتي فأخبرتني زوجتي أن مكتب نائب رئيس الوزراء اتصل بها، وأخبرها أن الدكتور يريد أن يقابلني الواحدة والنصف، وكانت الساعة حينئذ تقترب من هذا الميعاد، فنزلت إلى مكتب الدكتور حاتم، فأدخلت فورا إلى المكتب، ووجدت الأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، واستقبلني الدكتور حاتم ببشاشة، وقال: «أين أنت لا نراك إلا في التليفزيون؟ وقد أخذت نصف الشاشة، ولكنك جميل، والناس تحب أن تراك.» فقلت: «إذن أعطوني عمولة على ما يشترى من أجهزة التلفزيون.» وضحكنا، ثم بدأ الدكتور حاتم يتكلم في الموضوع الذي استدعانا من أجله، فقال: «سمعت أنكم كتبتم بيانا وقعه توفيق بك ونجيب بك وثروت بك وأمل دنقل، وفهمنا أنه لم يكن يريد أن يوقع معنا الشباب الصغير والشيوعيون.» فقلت: إننا وقعنا البيان حقا، ولكننا لا نعرف شيئا بشأن من وقع عليه بعدها، فقال: «إن كثيرا من هؤلاء الذين وقعوا يتقاضون مرتبات من سفارات أجنبية.» ثم قال: إنه حين عرف أسماء من وقعوا البيان قال: إن هناك ثلاثة لا شك في إخلاصهم ونقاء ضمائرهم وهم نحن الثلاثة. ثم بدأ يشرح الموقف، فقال: «إننا أخطأنا أننا لم نعلن الهزيمة يوم 5 يونيو، ونوقع الصلح، وهذا الخطأ هو الذي نعانيه حتى اليوم، ونحن اليوم نعبئ قوتنا، ولكن الرئيس يرى أن كل تأخير إنما هو في مصلحتنا.» وقال ضمن ما قال: «إنه حين كان في لندن استطاع أن يحصل على وعد بإعطاء أسلحة من إنجلترا، وأنهم يحصلون على أسلحة فرنسية عن طريق ليبيا، وإندونسيا تقدم ما تستطيع من الأسلحة.»
وحين انتهى من حديثه بدأ توفيق بك الكلام، فقال: «إن الخطأ الذي وقع لم يقع يوم 5 يونيو، وإنما وقع يوم 14 مايو في ثورة التصحيح؛ فقد كان يجب على الرئيس أن يعلن في ثورة التصحيح أن كل الذي قيل قبل هذا اليوم كان نوعا من الدجل، ثم يعلن حقيقة الموقف.» ثم استطرد توفيق بك أنه لم يحدث في التاريخ أن تهزم دولة، وتعلن في نفس اليوم أنها ستحارب كما لم يحدث أن حاربت دولة مهزومة بعد خمس سنوات أو ست من هزيمتها، ثم ضرب مثلا بألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فقال: «إنها لم تهزم على أرضها، وإنما كانت جيوشها منتصرة في فرنسا، ولكنها حين علمت أن أمريكا ستدخل بجيوشها الجديدة أعلنت الهزيمة؛ لأن قوادها كانوا يحسنون التفكير، ويقدرون الأمور تقديرا سليما بعقليات متفتحة تنظر إلى الحقيقة، وتتصرف على أساسها، وقد أدرك هؤلاء القواد أنه لا قبل لجيشهم المتعب بقوات أمريكا التي كانت في كامل قواتها، وهكذا أعلنت ألمانيا هزيمتها، ولأول مرة في التاريخ كانت الدولة المنهزمة تملي شروطها على الدولة المنتصرة. وحين فكرت ألمانيا في خوض حرب أخرى لم يعلن هتلر ذلك، وإنما راح يعد جيوشه في صمت، وفي نفس الوقت يبعد الأنظار عن الجيش بالمنشآت الكبرى في ألمانيا، ويهتم حتى بالأولمبياد الرياضية، ويصرف الأنظار عن أي تفكير حربي من جانبه.» ورد الدكتور حاتم بأن الأستاذ توفيق الحكيم على حق، وقال ضمن ما قال: «أنتم عقلاء البلد، ما دمت ترى ذلك فلماذا لا تستشيرون عقلاء البلد؟» وقال الأستاذ نجيب محفوظ: «إذا دخلنا في حرب مع إسرائيل، فإن الاحتمال المتوقع أن تكون الحرب سجالا، فمن المستبعد أن نهزمها هزيمة ماحقة من الجولة الأولى، وحين نتفاءل نستبعد أن تهزمنا مرة أخرى هزيمة ماحقة من الجولة الأولى، فخير الاحتمالات أن تكون الحرب سجالا.» وقال الدكتور حاتم: «نعم.» وقال الأستاذ نجيب: «في هذه الحرب من المتوقع أن تصاب المنشآت عندنا والمرافق.» وقال الدكتور: «نعم.» فقال الأستاذ نجيب: «ولن يسمح لنا بعد ذلك بهزيمة إسرائيل هزيمة نهائية، بل ستتدخل الدول، وحينئذ سنضطر أن نقبل ما يعرض علينا الآن. فلماذا لا نقبله دون أن نخرب بلدنا؟» فقال الدكتور حاتم: «وماذا نقول للشعب؟ وماذا نقول للشعوب العربية؟ وماذا نقول للحكومات العربية وللفدائيين ولأهل فلسطين؟»
وحينئذ قلت: «لقد قال لنا الرئيس في الاتحاد الاشتراكي في اجتماع كان الكتاب قد اشتركوا فيه إن أمريكا تعطي الأسلحة بإغداق لإسرائيل، وكرر ما كان قد قاله أحد المسئولين الأمريكيين من أن أمريكا ستعطي السلاح لإسرائيل رغم علمها بأنها متفوقة في السلاح.» وقال الدكتور حاتم: «نعم.» فقلت: «وتقول سيادتك إننا نأخذ الأسلحة من روسيا وإنجلترا وفرنسا.» فقال: «نعم.» قلت: «ألا ترى أن أمريكا تفوق هذه الدول مجتمعة؟» فقال: «وماذا تفعل مع أمريكا؟ لقد جاء إلينا مندوبها، وحين عرضنا عليه ما نقبله، قال إنه لا يريد منا خيرا من ذلك.» فقلت: «نعم، ولكنكم وقعتم المعاهدة المصرية السوفيتية بعد هذه الزيارة بيومين.» وسكت الدكتور حاتم.
ثم تكلم عن الطلبة، واستحالة إجابة مطالبهم، فقال الأستاذ نجيب محفوظ: «ولماذا لا تجتمعون بهم وتبينون لهم وجهة نظركم؟» ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى البلاد العربية، فذكر أن موقعة الطيران الأخيرة التي دارت في سوريا سقط فيها ست طيارات لسوريا، واثنتان لإسرائيل في حين كانت البيانات تقول شيئا يختلف عن هذا كل الاختلاف، وفي نهاية الاجتماع سألني الدكتور حاتم: «ماذا كنتم تنوون أن تفعوا بالبيان؟» كنا ننوي أن نرسله إليك وإلى رئيس الجمهورية. وانتهى اللقاء عند ذلك.
وفي نفس اليوم مساء ذهبت أنا والأستاذ نجيب إلى الحرافيش بمنزل محمد عفيفي، وجاء إلينا هناك الأستاذ طلال سليمان مندوب الأنوار اللبنانية، وقد تعود أن يسهر مع الحرافيش كلما جاء إلى القاهرة.
وقد أخبرنا الأستاذ طلال أن صديقا له قدم من بيروت، وأخبره أن البيان نشر ذلك. ودهشت أنا والأستاذ نجيب محفوظ لهذا ولم نعلق.
في صباح الجمعة ذهبت أنا والأستاذ الشرقاوي إلى الأستاذ يوسف في منزله، وذكرت له ما دار بيننا وبين الوزير. وفي مساء الجمعة التقينا أنا والأستاذ نجيب في مقهى ريش، وسأل الشبان عما دار في لقاء الوزير، فتركت الحديث كله للأستاذ نجيب، وكان حريصا كل الحرص، فلم يذكر أية تفاصيل، وإنما اكتفى بأن قال: «إننا قلنا للوزير رأينا بكل صراحة.»
في مساء السبت أخبرني الأستاذ يوسف السباعي أنه سيكتب بيانا آخر، ويريدني أنا والأستاذين توفيق الحكيم ونجيب محفوظ أن نوقع عليه، فقلت له: «أسألهما؟» وكنت على موعد في دار الأدباء لحضور اجتماع مجلس إدارة جمعية مؤلفي الدراما. واتصلت من هناك بالأستاذ توفيق الحكيم، وذكرت له ما يريده الأستاذ يوسف السباعي، فقال إنه يرفض التوقيع على أي بيان، حتى لو كان أعنف من بيانه هو؛ لأنه قال كلمة، ولا ينوي أن يتراجع عنها أو يزيد عليها. وكلمت الأستاذ نجيب محفوظ في مقهى ريش؛ لأن السبت كان بداية إجازة العيد، وأحببت أن أسأله رأيه قبل أن ألتقي بالأستاذ يوسف السباعي. وكنت أعلم أن الأستاذ نجيب سيسافر فجر الأحد إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة، وأخبرني الأستاذ نجيب أنه لا يرفض التوقيع في ذاته، ولكنه قال: لا بد أن يوقع على هذا البيان كل من وقع على البيان الأول، حتى لا نخرج نحن عن قوم وثقوا بنا، ووقعوا البيان تضامنا معنا، وأنهى حديثه بقوله إنه يفوضني في هذا الأمر، فإذا وقع الأستاذ توفيق، ووقعت أنا فهو يوقع معنا.
قابلت الأستاذ يوسف السباعي بدار الأدباء، وأخبرته برأي الأستاذين توفيق ونجيب، وطبعا لم أذكر شيئا عن نفسي معبرا أن عدم توقيعي أمر مفروغ منه. وبدا على الأستاذ يوسف الامتعاض، ولكنه لم يقل شيئا.
صفحة غير معروفة