ويختلط أمرها في ذهني، فما أدري أهي أشياء رأيتها رأي العين، أم أن رواية أبوي لي عنها جعلتني أتمثلها كحقيقة رأيتها رأي عين، بينما هي مسموعات التصقت بنفسي وهيأت لي نفسي هذه أنها مرئيات؟
من هذا ما قيل لي إنني مرضت مرضا خطيرا بالدوسنتاريا ؛ لأن أمي صحبتني معها لتحضر العزاء في عمها إسماعيل باشا أباظة، وكان اليوم شديد القيظ، وكانت الرياح الحارة تلفح مصر بسمومها.
وقد تعرضت في هذا المرض لخطر الموت، وأشرف على علاجي صديقان لصيقان لأبي كلاهما أصبح واسع الشهرة، هما الدكتور إبراهيم شوقي الذي أصبح باشا بعد ذلك، والآخر الدكتور حافظ عفيفي باشا، ويقول أبي إن صاحبة الفضل في شفائي هي عمتي التي تحدت الموت والمرض، فأصرت أن تسهر الليل جميعه تنفذ أوامر الأطباء.
ومما رواه لي أبي أنني في سنتي الثانية كنت أدرك أن ستي والدته لا تحتمل السهر، فكنت أرجو بلسان الطفل الأعجمي أن تقوم لترتاح، فإذا أبت وأصرت أن تبقى تناومت وتوقفت عن التأوه، حتى تقوم ستي إلى منامها، فإذا تأكدت أنها قامت عدت مرة أخرى إلى اليقظة والتأوه.
ومن المؤكد أنني أذكر ستي هذه؛ فقد كان لها جناح خاص في الدور الأول من منزلنا ببلدتنا غزالة التي تبعد عن الزقازيق سبعة كيلومترات. وكان هذا الجناح منفصلا عن البيت متصلا به في وقت معا، فقد كان علينا حتى نذهب إليه أن نخترق حجرة كبيرة كنا نعتبرها حجرة الاستقبال التي تلتقي فيها ستي بالزائرات من سيدات البلدة، أو من الأقارب، ثم علينا بعد ذلك أن نقطع بهوا يقسمه قسمة ظالمة دولاب كان أشبه بالكيلار، وفي هذا الدولاب باب يؤدي إلى البهو الواقع أمام حجرة ستي وعمتي، فقد كانتا متلازمتين حتى في النوم. وكان لحجرة نومهما ثلاث نوافذ تطل إحداها وهي التي تتوسط الجدار الأيسر على ما يسمونه الدوار، حيث تربي الدواجن، وتصنع القشدة بأن يترك اللبن الطازج في المتارد، حتى يتكون له سطح سميك هو القشدة الفلاحي المعروفة، وحيث تصنع أيضا الجبنة القريش من اللبن بعد أن تنزع قشدته.
وكانت ستي وعمتي تشرفان من تلك النافذة على أعمال الدوار جميعا من إطعام الدواجن إلى شتى فروع الأعمال المنزلية.
وبجانب باب حجرتهما توجد نافذة عجيبة الشأن؛ لأنها كانت تطل على البهو. ولم أر في حياتي بعد ذلك نافذة تطل على بهو إلا تلك النافذة، وكانت عمتي وستي كما أتذكرهما دائما جالستين على حاشية تحتها بساط على الأرض، لا تتركان مكانهما هذا، حتى إنني كل ما أذكره عن ستي يكاد ينحصر في جلستها هذه تحت هذا الشباك.
أما الحائط الأيمن فقد كانت تتوسطه نافذة تطل على ما كنت أسميه حديقة ستي، ولم تكن حديقة ستي إلا تكعيبة عنب خشبية تحيط بفناء صغير نخلص إليه بسلم من أربع درجات أو خمس، ونستطيع من هذا الفناء أن نخرج من باب خشبي ضخم سميك إلى خارج البيت إلى ما كنا نسميه بالمدحاية، وتحت تكعيبة العنب التي تحيط بالفناء مصطبة متصلة بالحوائط الأربعة التي تصنع ما كنا نسميه بالحديقة.
وكانت ستي شديدة الحدب علي حتى أذكر أنها كثيرا ما كانت تعطيني ريالا من الفضة حين أنزل إليها في أول النهار لألقي عليها تحية الصباح. وما كنت أدري ماذا أصنع بهذا الريال، إلا أنني كنت أخرج إلى أترابي من أبناء القرية، وكانوا هم أصحاب الرأي في الطريقة التي ننفق بها هذه الأموال الطائلة.
وكان يوسف الذي عمل كلافا للبهائم بعد ذلك ينال مني دائما قرشا صاغا مقابل أن يصنع لي سيارة من الطين، وكان يضع لها زجاجا، ولعل هذا القرش هو المبلغ الوحيد الذي أذكره بين العشرين قرشا جميعا التي لا أذكر فيم كنا ننفقها.
صفحة غير معروفة