ولم تزل عنك دهشتك كلها ولكنك قلت في نغمة حسية الجرس: أهلا وسهلا.
وقالت أختي: طبعا تعرفين أنه رسام.
وابتسمت فما رأيت ابتسامة أحلى مما رأيت على وجهك. - إن لم أكن أعرف فقد عرفني هو وضحكت أختي، ولم أملك أن أضحك، وقلت أنت: أراك متعجلا على أن ترسمني. - الآن قبل اللحظة الأتية. - يا سلام، ولماذا العجلة؟ - أخشى أن تمر الأيام على هذا الجمال. بل أخشى أن تمر الدقائق. وضحكت وضحكت أختي ثم تجهمت أساريرك فجأة وقلت: أتعرف من أنا؟
وقلت وأعتقد أن وجهي كان ساذجا وأنا أقول: أبدا، ولكني لم أعرف لجمالك مثيلا.
وعادت الابتسامة إلى وجهك ثم قلت: أخشى أن يكون هذا غزلا. - أنت تعرفين من أنا؟ - نعم قرأت عنك ورأيت لك بعض الصور. - أتعتقدين أنني أقبل لكرامتي أن أقول ما أقول لمجرد الغزل؟ - إذن ... - أنا يا سيدتي، رسام، رسام رأى وجها لم ير له مثلا من قبل وما يعتقد أنه سيرى له مثيلا من بعد، أنت عندي الآن وجه، مجرد وجه. أنا لا أعرف من أنت ولا يهمني أن أعرف، إنما أعرف هذا الوجه، ولا أريد أن يمر الزمن قبل أن أرسم هذا الجمال فيه، وأنا لا أريد منك إلا رسمك، إنه جمال أراد له الله أن يكون واحة ندية للبشرية العانية، سيدتي أخشى أن يمر الزمن، أي قدر ضئيل من الزمن على هذا الوجه وأنا أريده هو الآن. - أتخشى الزمن إلى هذا الحد؟ - قاس لا يرحم الجمال، لو كان الزمن يعقل لمر بجمالك هذا فتركه دون أن يوقع عليه بغضونه أو يلمس شعرك الزاهي المتكبر بثلجه، ولكن الزمن يمر ولا يعفي أحدا، وأريد أن أرسمك قبل أن يمر.
وارتسمت في عينيك أمواج من الخوف وأمواج من الفرح وازداد بهما الشعاع وقلت: لك أن ترسمني.
أنت لم تعرفي أي أمل حققته بألفاظك القليلة هذه، والتقينا بعد ذلك وكانت صورتك التي كتب عنها النقاد أضعاف ما كتبوا عن صوري جميعا وبلغت من المجد فوق ما كنت أهفو إليه. ولكن شيئا من هذا لم يجعلني أطير بهذين الجناحين اللذين كنت أطير بهما وأنا أرنو إليك في أول لقاء، أو هذين اللذين كنت أطير بهما وأنا جالس إليك، لقد عبدت الله المصور في صورتك، وأحببتك آية من آيات الفن الأسمى الإلهي، أحببتك منحة من السماء وأحببتك أملا لي وأحببتك جمالا لا يطاوله جمال، وحاولت أن أخطبك ولكنك رفضت، لم أكن أتوقع هذا الرفض أبدا، نعم عرفت عن ماضي أيامك هذه الخطبة الفاشلة التي أرادها طامع في مالك، ولكنك تعلمين أني لا أطمع في مالك، أتراك من أجل غلطة واحدة من الزمان تعرضين عن الحياة ومن أجل خطيئة واحدة من رجل ترفضين جميع القاصدين إليك؟ لا أظن.
فمن تستقبل الحياة إن لم تكن أنت؟ وعلى من تقبل الحياة إن لم تقبل عليك أنت؟ أنت في جمالك هذا الشاهق الأبي، وفي شبابك هذا الزاخر بالحياة، اجعلي مني حياتك فأنت كل حياتي.
ولم يعرف خطها على الظرف؛ فقد كانت المرة الأولى التي تكتب فيها إليه. وبيد مرتجفة أمسك بالخطاب:
لكم تشبه يا صديقي ذلك الفتى الذي تقدم إلى خطبتي طامعا في مالي. لا تجزع، فإنك مثله لا فارق بينكما ولا اختلاف، لقد أحب كل منكما شيئا زائلا مني، أحب هو المال وما أسرع ما يزول المال، وأحببت أنت الجمال وما أسرع ما يزول الجمال. وأنت تعلم وأنت تذكر كم كنت ملهوفا على رسم صورتي قبل أن تمر بي الأيام فتطمس جمال وجهي وتذهب بشعري المتكبر المزهو. أنت شبيه بذلك الفتى كلاكما أحب زائلا. أنت يا صديقي لم تحبني أنا، أنا جميعا بكل شيء في، بروحي وجمالي وفكري وكل ما يكون هذا الكيان الذي أمثله في هذه الحياة، لو أنك يا صديقي أحببتني جميعا إذن لهدأ خاطري واطمأن ولقبلتك زوجا قائلة لنفسي، إن ذهب الجمال بقيت الروح وإن ذهب المال بقي الفكر، ولكنك وا أسفاه، لم تحب إلا جمال وجهي فقط، وما أسرع ما يزول، أجل ما أسرع ما يزول.
صفحة غير معروفة