تأليف
أمين سلامة
مقدمة
ما كان ليجول بخاطري أن أتعرض لهذا الموضوع الشائك الشاق، وما كنت أفكر لحظة أن قلمي سيطاوعني ويلعب دوره في إبراز معالم اللذة، وإبانة مواقعها، وتفسير مدلولاتها، واستجلاء كافة معانيها ومراميها، ولكن الله أراد؛ فإذا بي أسطر هذا الكتاب ضمن سلسلة «في مرآتي» ليصبح اسمه «اللذة في مرآتي»، ولكني آثرت - والكتاب تحت الطبع - أن يكون اسمه «الذات واللذات».
واللذة ككلمة لذيذة ذات أثر ممتع على السمع وعلى النفس، كثيرا ما ننطقها وتتردد على ألسنتنا ونحس بطعمها الحلو دون أن نكون قد وضعنا شيئا على الإطلاق بأفواهنا؛ فأحيانا نتذوقها بعقولنا وأفئدتنا؛ إذ يستهوينا الشيء اللذيذ، فنقبل عليه ونتكالب، ونود أن نعب منه عبا، طالما هو لذيذ يفرج عنا الكربة، وينسينا الغمة، ويبعدنا عن هموم الحياة المدلهمة.
قال جورج آرمان: «صيحة نواح تندو من الرجال عندما يتألمون، ومن النساء عندما يشعرن باللذة.» وقال محمد الحارثان: «من انطبع في فص خاتم استعداده نقوش الحقائق، فقد ذاق اللذة القصوى.» وقال أبو حاتم المظفر: «نسبة اللذة الجسمية إلى اللذة العقلية كنسبة المتنسم إلى المتطعم.»
واللذة كلمة مطاطة شاملة غير واضحة المعالم، تقال في حالات متعدد فتعطي طعوما مختلفة؛ فهناك لذات دنيا، كما أن هناك لذات عليا، وهناك لذات شهوانية وأخرى روحية، ولذات معنوية وأخرى حسية؛ فعالم اللذة عالم مترامي الأطراف، لا حدود له ولا آفاق، إنه ملء الأرض والبحر والسماء؛ ففي السماء لذات كما في الأرض لذات، في المثل لذات وفي الشهوات لذات، للإنسان لذات وللحيوان لذات وللنبات لذات، فتنعم جميع الكائنات الحية بشتى اللذات. كذلك للأفعال وللأعمال لذات، وللحركات والخطوات لذات، وللسكون والجمود والثبات والنوم لذات، كما للأكل والشرب لذات. كل منها له لذاته التي تؤثر في الإنسان فيستجيب لها طائعا، كل حسب هواه وعشقه وميوله ونزواته ورغباته ومشتهياته.
قال أبو الفتح بن أبي سعيد: «من طلب لذة عقلية فليس له أن يطلب لذة حسية تمنعه عنها؛ كي لا يكون كمن باع الذهب بالخزف.»
وقال بهمن يار: «اللذات العقلية شفاء لا يعقبه داء، وصحة لا يلزمها سقم.» وقالت العرب: «لا خير في لذة تعقب ندما.»
لذلك أردت في هذا الكتاب المتواضع أن أعالج موضوع اللذة، وألقي الأضواء على مكامنها ومواقعها ومكنوناتها ومدلولاتها. وقد تتفق معي، أيها القارئ العزيز، في كثير مما كتبت، وقد تعارضني في شيء مما كتب، وأنت في كلتا الحالين محق؛ فما أراه أنا لذيذا قد لا تراه أنت كذلك، والعكس صحيح. غير أنه مما لا شك فيه أنك، أيها القارئ، ستتفق معي في كثير مما قلته في مجال اللذة من أقوال أعتبر نفسي أول من تجاسر على الإدلاء بها بكل هذا الكلام، الذي يدخل في باب الحكمة أكثر منه في باب المقال أو القصة، ولكنك لو جمعت سطور هذا الكتاب في حبل واحد، لخرجت بقصة تحكي لك كل شيء عن تلك الكلمة التي تخرج من أفواهنا في أوقات معينة وفي لحظات بعينها وبحساب دقيق؛ فليس كل ما حولنا لذيذا، كما أن اللذة لا تأتينا إلا لماما؛ فالنفس لا تحس باللذة إلا في لحظات قليلة، ولا يمكن أن نستغرق فيها أياما وشهورا، وإن كان هذا جائز الحدوث لمن يعرف طريق اللذة النظيفة الحلال، البعيدة عن غضب الله والناس معا.
صفحة غير معروفة