مقدمة التحقيق
بين ابن بسام في مقدمة كتاب الذخيرة أنه قد جعله أربعة أقسام، على النحو الآتي:
١ - القسم الأول: لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس.
٢ - القسم الثاني: لأهل الجانب الغربي من الأندلس وذكر أهل حضرة إشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط.
٣ - القسم الثالث: لأهل الجانب الشرقي من الأندلس.
٤ - القسم الرابع: لمن طرأ على جزيرة الأندلس من شعراء وكتاب، ولبعض مشهوري المعاصرين ممن نجم بإفريقية والشام والعراق.
وبين سنتي ١٩٣٩ ١٩٤٢ ظهر القسم الأول من الكتاب، في مجلدين، بعناية لجنة من المحققين ولجنة من المشرفين على التحقيق؛ وفي سنة ١٩٤٥ ظهرت قطعة من القسم الرابع. ثم توقفت اللجنة المضطلعة بتحقيق الكتاب عن متابعة عملها فيما يبدو لظروف وأسباب مختلفة، وكان في ذلك التوقف، خسارة كبيرة لدارسي الأدب الأندلسي وطلابه، لأن الذخيرة أولًا من أهم مصادر ذلك الأدب، ولأنه ليس من السهل ثانيًا على كل دارس أن يحصل على أصولها الخطية، ثم لأن تلك الأصول ثالثًا ليست ميسرة للقراءة على نحو مباشر طيع.
1 / 1
لهذا وجدت أن تحقيق الذخيرة على صعوبته أمر ضروري، وأخص منها القسمين الثاني والثالث، وما تبقى من القسم الرابع؛ فهذا هو القدر الذي لم يظهر من الكتاب مطبوعًا حتى اليوم؛ وقد بدأت التحقيق بحسب وفرة الأصول الخطية لكل قسم، وكان القسم الثالث أوفرها حظًا، ويليه في ذلك القسم الثاني، ولهذا عملت في تحقيقهما بهذا الترتيب، مرجئًا النظر في القسم الأول، لأنه قد طبع وتداولته الأيدي منذ زمن؛ ولكن رغبة الدارسين في أن يروا جميع أجزاء الذخيرة محققة بكاملها متناسقة في اكتمالها متجانسة في سماتها العامة المشتركة ألزمتني بإعادة النظر في هذا القسم الأول؛ وهكذا كان.
وأبادر لأقرر مخلصًا أن أعضاء اللجنتين اللتين تولتا هذا العم تحقيقًا وإشرافًا قد بذلوا في إخراجه من العناية ما يستحق كل تقدير؛ أقول هذا وأنا قد اطلعت على أصول الذخيرة ووقفت على مدى ما فيها من صعوبة ناشئة عن حال النسخ نفسها، وعما فيها من كثرة الخلافات في القراءة؛ ومن التفاوت الشديد بين ما تثبته نسخة وما تثبته أخرى، ومن تعرض بعض تلك النسخ لتدخل أيد وأقلام أخرى في سياقها غير يد المؤلف وقلمه. فإذا أضيف إلى ذلك أنني على ما بذلت من محاولات ودراسات لم أستطع أن أزيد على الأصول التي اعتمدتها اللجنة السابقة في تحقيق هذا القسم الأول، وجد القارئ أن النص لم يبتعد كثيرًا عما جاء عليه في الطبعة السابقة، وإن كنت أقدر أن تفاوت النسخ، سيكون مدعاة في المستقبل إذا تم كشف شيء منها مجالًا لزيادات مفيدة ولقراءات جديدة.
ومهما يكن من شيء، فإن عدم توفر أصول جديدة لم يوقف بذل الجهد في اتجاهات أخرى، وأرجو ألا يؤخذ قولي مأخذ الدعوى حين أقول أنني قد منحت هذه الطبعة مميزات كثيرة: فقد صححت عددًا غير قليل من أخطاء القراءة، وعرفت بالأعلام والأماكن حيث كان ذلك ضروريًا، وشرحت لألفاظ التي تتطلب شرحًا وخاصة بعض المصطلحات الأندلسية مثل حنبل
1 / 2
وطولق وقلبق وما أشبه ذلك من ألفاظ غير مألوفة أو معرفة لدى المشارقة، إذ قد يستغرق البحث عن معانيها وقتًا طويلًا لا يتيسر لكل قارئ، كما وفقت إلى تخريج كثير من الشواهد الشعرية التي أدرجها المؤلف في الكتاب، واتبعت نهجًا مختلفًا في تمييز الأصيل من الدخيل في نص الكتاب، وراجعت النص على المصادر التي استمدت من الذخيرة، وعلى سائر المصادر الأندلسية التي طبعت بعد صدور ما طبع منها.
أما النسخ التي اعتمدتها فهي أيضًا تنقسم في فئتين مثلما كانت الحال في أصول القسم الثالث، وتضم الفئة الأولى:
١ - نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم ١٣٢٤ (ورمزها: ط)، وعدد أوراقها ١٦٧ ورقة، في كل صفحة منها ٢٩ سطرًان ومسطرتها ٢٣.٥ × ١٦؛ وهي مكتوبة بخط مغربي جميل واضح، ولكنها لا تحمل تاريخًا للنسخ، وهي قريبة الشبه بالنسخة (ط) التي وصفتها في مقدمة القسم الثالث، وإن لم يكن الخط فيهما واحدًا بالضرورة؛ وهذا الشبه بين النسختين قد يحمل على القول بأن (ط) تنتمي إلى القرن الحادي عشر، وأقدم التملكات المؤرخة المكتوبة على الورقة الأولى منها تحمل تاريخ أوائل شعبان ١٠١٩ حين دخلت في ملك محمد ابن أحمد بن محمد الشريف الحسني، ثم باعها هذا المالك إلى سيدي محمد بن عبد الملك بن عبد الله في رمضان المعظم سنة ١٠٢١.
٢ - نسخة دار الكتب الملكية بالقاهرة وعدد أوراقها ١٩٧ ورقة، وفي الصفحة الواحدة ٢٥ سطرًا، ومسطرتها ٢٥ × ١٣ وقد تم نسخها سنة ١٢٢٩.
وهاتان المخطوطتان متشابهتان في حالتي الزيادة والنقص في النص مما يرجح أنهما مأخوذتان عن أصلين متقاربين، وإذا تميزت نسخة دار الكتب القاهرية في بعض القراءات عن (ط) فهذا التميز لا قيمة له في الغالب، وقد تلتقي هذه النسخة مع نسخ الفئة الثانية الآتي وصفها في بعض القراءات، وفي هذا أيضًا ما يجعل قيمتها ثانوية، لأنها لا تتمتع بالزيادات التي تتمنع
1 / 3
بها نسخ الفئة الثانية إلا في موطن واحد، حيث يفترق عن (ط) على نحو لافت للانتباه وذلك في إيراد أبيات زائدة عما هي في (ط) في ترجمة ابن زيدون، واشتراكها مع نسخ الفئة الثانية في إيراد نص دخيل على الذخيرة هو رسالة ابن زيدون لأبي بكر بن مسلم، بل إنها في هذه الرسالة تنفرد عن نسخ الفئة الأخرى ببعض عبارات أدرجتها بين حاصرتين من هذا النوع مشيرًا في الحاشية إلى مصدر الزيادة؛ ولقلة الاعتماد على هذه النسخة لم أضع لها رمزًا خاصًا.
وأما الفئة الثانية فإنها تضم النسخ الآتية:
١ - نسخة باريس رقم: ٣٣٢١ (ورمزها: س) وتقع في ١٢٥ ورقة، عدد سطور كل صفحة ٢٣ سطرًا، ومسطرتها ٢٢ × ١٣ وهي مكتوبة بخط مغربي، وفيها أخطاء وأوهام كثيرة، وليس هناك ما يدل على تاريخ نسخها.
٢ - نسخة المكتبة التيمورية ورمزها (م)، وتتألف من ٢٢٥ ورقة، في كل صفحة ٢٦ سطرًا، ومسطرتها ٢٠ × ١٣ دون تاريخ أيضًا، وخطها مغربي.
٣ - نسخة خاصة كانت في ملك الأستاذ ليفي بروفنسال (ورمزها: ب)، عدد ورقاتها ١٠٤، وعد الأسطر في كل صفحة ٣٣، ومسطرتها ٢٤ × ١٧، وخطها مغربي مزود ببعض الشكل، إلا أن الخروم فيها كثيرة.
وتعد هذه النسخ الثلاث متقاربة لأنها قد تميزت عن الفئة الأولى بزيادات كثيرةن وتجيء هذه الزيادات في ثلاثة أنواع: أولها ورود النصوص المنقولة عن ابن حيان فيها على نحو تفصيلي لا يتوفر في الفئة الأولى من النسخ حيث يرد النص موجزًا بشكل واضح؛ وثانيها: ورود رسائل وأشعار لا يستبعد أن يكون ابن بسام هو الذي زادها؛ وثالثها: كثرة الدخيل فيها مما قام بإضافته شخص (أو أشخاص) بعد عهد المؤلف، وكان أحد الذين زادوا بعض النصوص مطالعًا على مسودات ابن بسام.
1 / 4
وقد كان منهجي في التحقيق قبول أوسع الصور في النسخ وأكثرها تفصيلًا، ولهذا اعتبرت أن كل نص تنفرد به النسخ (ب س م) فإنه لا يميز بإشارة لأن ذلك يعني إثقال الحواشي في كل صفحة بفروق لا تكاد تحصر، فأما إذا كان النص من زيادات (ط) فإنه يوضع بين معقفين على هذه الصورة [] . والعيب في هذه الطريقة أن القارئ لن يتصور مدى ما ينقص النسخة (ط) أو مدى ما تتمتع به النسخ (ب س م) من زيادات ولكن هذا عيب شكلي خالص، إذ أن إقامة نص سليم هو الهدف الأهم والأكثر جدوى. فأما ما أقطع يقينًا بأنه من الدخيل على نص الذخيرة فأني أبقيه في موضعه مميزًا له باختيار حرف طباعي أصغر حجمًا من حرف النص الأصلي؛ ولاختياري هذا المنهج وجدت من الضروري أن أرد الرسائل التي أضيفت إلى ترجمة كل من ابن برد والبزلياني إلى مواضعها بعد أن كانت لجنة التحقيق التي قامت بإصدار هذا القسم من قبل قد انتزعتها من موضعها وجعلتها ملحقًا بآخر الكتاب، وقد كان عمل اللجنة في هذه الناحية غير قائم على منهج موحد، فهناك مثلًا زيادات دخيلة في ترجمة ابن زيدون تركت في موضعها، ولم تفرد في ملحق خاص.
وقد أهملت لدى مقارنة النسخ قراءات واضحة الخطأ، إذ لا ضرورة لإثقال الحواشي بها؛ وأثبت في المتن أصح القراءات في نظري ووضعت ما يعد في الدرجة الثانية من حيث الصحة أو من حيث احتمال الصحة في الحاشية، وهذا أمر ذاتي اجتهادي لا يمكن تعليله في كل مرة. وكل ما زدته في المتن اجتهادًا من عند نفسي أو اعتمادًا على المصادر فقد وضعته بين حاصرتين على هذا الشكل دون أن أشير إلى ذلك في كل مرة، وذلك تمييزًا لهذا النوع من الزيادات عن الزيادات المستمدة من النسخة القاهرية، فإنها مشفوعة دائمًا بالإشارة إلى مصدرها.
وبما أن الذخيرة عمل ضخم قد يستغرق سنوات فقد وجدت من الخير
1 / 5
الإسراع بعمل فهرست خاص بكل قسم، (وكل قسم يقع في جزءين متسلسلي الترقيم) بدلًا من إرجاء الفهرسة حتى يتم ظهور الأجزاء جميعًا. على أني أرجو أن أخصص جزءًا تاسعًا للاستدراكات العامة والتعليقات وبعض الفهارس الفنية التي تيسر الإفادة من هذا الكتاب القيم؛ كذلك أرجو أن يكون هذا الجزء الأخير مجالًا لدراسة مؤلف الكتاب، ومنزلته الأدبية، وقيمة كتابه من النواحي التاريخية والأدبية والنقدية، وهي دراسة لا يمكن أن تتم على الصورة الشاملة المرضية قبل اكتمال أجزاء الكتاب تحقيقًا ونشرًا.
وأود في ختام المقدمة أن أتقدم بالشكر إلى الدار العربية للكتاب، التي أخذت على عاتقها بذل كل جهد ممكن لوضع " الذخيرة " في متناول الدارسين والقراء، خدمة منها للتراث العربي بعامة وللتراث المغربي بخاصة، وأن على يقين من أن الدراسات في الأدب الأندلسي ستجد في الذخيرة مجالًا خصبًا لا يدانيه في غناه واتساعه أي مصدر آخر، وأن وجود الذخيرة في أيدي الدارسين محققةً، لن يجعل الإفادة منها أمرًا جزئيًا محدودًا تحول دون اتساع مداه صعوبة النسخ الخطية؛ ولهذا أكاد أسكت صوت الاعتذار عما قد يكون تسرب إلى هذه الطبعة من خطأ أو وهم، بعد أن استفرغت جهد الطاقة. ومن الله أستمد العون، وإليه أبرأ من الزهو والدعوى، وعليه أتوكل وبه أستعين.
بيروت في آب (أغسطس) ١٩٧٥.
إحسان عباس
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو الحسن علي بن بشام الشنتريني الأندلسي، ﵀:
أما بعد حمد الله ولي الحمد وأهله، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله، فإن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل؛ تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد؛ وما زال في أفقنا هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الفنين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر؛ لعبوا بأطراف الكلام المشقق، لعب الدجى بجفون المؤرق، وحدوا بفنون السحر المنمق، حداء الأعشى ببنات المحلق؛ فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم؛ وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل: نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه؛ ونظم لو سمعه
1 / 11
كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبعه جرول ما عوى ولا نيح؛ إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع إلى قتادة؛ حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أوطن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابًا محكمًا؛ وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصية، ومناخ الرذية، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد. فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحاره ثمادًا مضمحلة؛ مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه؛ وقديمًا ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله؛ وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان -
وقد كتبت لأرباب هذا الشأن، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتاب. ولم أعرض لشيء من أشعار
1 / 12
الدولة المروانية، ولا المدائح العامرية؛ إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النصفة، وذهب مذهبي من الأنفة؛ فأملى في محاسن أهل زمانه " كتاب الحدائق " معارضًا ل - " كتاب الزهرة " للإصبهاني، فأضربت أنا عما ألف، ولم أعرض لشيء مما صنف. ولا تعديت أهل عصري، ممن شاهدته بعمري، أو لحقه بعض أهل دهري؛ إذ كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مجت الأسماع: " يا درا مية بالعلياء فالسند "، وملت الطباع: " لخولة أطلال ببرقة ثهمد "؛ ومحت: " قفا نبك " في يد المتعلمين، ورجعت على ابن حجر بلائمة المتكلفين؛ فأما " أمن أم أوفى "، فعلى آثار من ذهب العفا. أما آن أن يصم صداها، ويسأنم مداها - وكم من نكتة أغفلتها الخطباء، ورب متردم غادرته الشعراء، والإحسان غير محصور، وليس الفضل
1 / 13
على زمن بمقصور؛ وعزيز على الفضل أن ينكر، تقدم به الزمان أو تأخر، ولحى الله قولهم: الفضل للمتقدم، فكم دفن من إحسان، وأخمل من فلان. ولو اقتصر المتأخرون على كتب المتقدمين، لضاع علم كثير، وذهب أدب غزير.
وقد أودعت هذا الديوان الذي سميته ب - " كتاب الذخيرة، في محاسن أهل هذه الجزيرة " من عجائب علمهم، وغرائب نثرهم ونظمهم، ما هو أحلى من مناجاة الأحبة، بين التمنع والرقبة، وأشهى من معاطاة العقار، على نغمات المثالث والأزيار؛ لأن أهل هذه الجزيرة - مذ كانوا - رؤساء خطابة، ورؤوس شعر وكتابة، تدفقوا فأنسوا البحور، وأشرقوا فباروا الشموس والبدور؛ وذهب كلامهم بين رقة الهواء، وجزالة الصخرة الصماء، كما قال صاحبهم عبد الجليل ابن وهبون يصف شعره:
رقيق كما غنت حمامة أيكة ... وجزل كما شق الهواء عقاب على كونهم بهذا الإقليم، ومصاقبهم لطوائف الروم؛ وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية؛ ليس وراءهم وأمامهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط؛ فحصاة من هذه حاله ثبير، وثمده بحر مسجور؛ وقد حكى أبو علي البغدادي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال: لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من
1 / 14
أمر به من أهل الأمصار، فأجدهم درجات في الغباوة وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد، حتى كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة. قال أبو علي: فقلت: إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم، بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم، فسأحتاج إلى ترجمان، بهذه الأوطان.
قال ابن بسام: فبلغني أنه كان يصل كلامه هذا بالتعجب من أهل هذا الأفق في ذكائهم ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة، ويقول لهم: إن علمي علم رواية، وليس بعلم دراية، فخذوا عني ما نقلت، فلم آل لكم أن صححت. هذا مع إقرار الجميع له يومئذ بسعة العلم وكثرة الروايات، والأخذ عن الثقات؛ ولولا أن كل معنى معترض، يزيح سهمي عن ثغرة الغرض، المقصود في هذا الكتاب، لأوردت في هذا الباب، بعض ما وقع لأهل الأندلس من عجب، وسمع لهم من نادر مستغرب. وسيمر منه في تضاعيف هذا التصنيف ما فيه كفاية، ويربي إن شاء الله على الغاية. ولعل بعض من يتصحفه سيقول: إني أغفلت كثيرًا، وذكرت خاملًا وتركت مشهورًا. وعلى رسله، فإنما جمعته بين صعبٍ قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل؛ من تفاريق كالقرون الخالية، وتعاليق كالأطلال البالية، بخط جهال كخطوط الراح، أو مدارج النمل بين مهاب الرياح؛ ضبطهم تصحيف، ووضعهم تبديل وتحريف؛ أيأس الناس منها طالبها، وأشدهم استرابة بها كاتبها؛ ففتحت أنا
1 / 15
أقفالها، وفضضت قيودها وأغلالها؛ فأضحت غايات تبيين وبيان، ووضحت آيات حسنٍ وإحسان.
على أن عامة من ذكرته في هذا الديوان، لم أجد له أخبارًا موضوعة، ولا أشعارًا مجموعة، تفسح لي في طريق الاختيار منها، إنما انتقدت ما وجدت، وخالست في ذلك الخمول، ومارست هنالك البحث الطويل، والزمان المستحيل، حتى ضمنت كتابي هذا من أخبار أهل هذا الأفق، ما لعلي سأربي به على أهل الشرق. وما قصدت به - علم الله - الطعن على فاضل، ولا التعصب لقائل على قائل؛ لأن من طلب عيبًا وجده، وكل يعمل باقتداره، وبجهد اختياره؛ وما أغفل أكثر مما كتب وحصل؛ والأفكار مزن لا تنضب، ونجوم لا تغرب؛ ومن يحصل ما تثيره القرائح، وتتقاذف به الجوانح - وقد قال أبو تمام:
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب وهذا الديوان إنما هو لسان منظوم ومنثور، لا ميدان بيان وتفسير. أورد الأخبار والأشعار لا أفك معماها، في شيء من لفظها ولا معناها؛ لكن ربما ألممت ببعض القول، بين ذكر أجريه، ووجه عذر أريه؛ لا سيما أنواع البديع ذي المحاسن، الذي هو قيم الأشعار وقوامها
1 / 16
وبه يعرف تفاضلها وتباينها؛ فلا بد أن نشير إليه، وننبه عليه؛ ونكل الأمر في كل ما نثبته، ونرد الحكم في كل ما نورده، إلى نقد النقدة المعرة، وتمييز الكتبة الشعرة، الذين هم رؤساء الكلام، وصيارفة النثار والنظام؛ فأما من رين على قلبه، وطبع بالجهل على لبه، فقد وضعت عنا وعنه، كلفة الاعتذار منه. وقد كان في وقتي من فرسان هذا الشان، من كان أجدر أن يجري بهذا الميدان، ويعرب عما أعربت فيه عن القوم بأفصح لسان، يثير فيه المعاني من مرابضها، وأشد عارضة يظهر بها الأعراض المقصودة في اجمل معارضها؛ لكني بما أقدمت عليه، وتصديت إليه، كالنسيم دل على الصبح، والسهم ناب عن الرمح؛ ولا أقول إني أغربت، لكن ربما بينت وأعربت؛ ولا أدعي أني اخترعت، ولكني لعلي قد أحسنت حيث اتبعت، وأتقنت ما جمعت، وتألفت عنن الشارد، وأغنيت عن الغائب بالشاهد؛ وتغلغلت بقارئه بين النظم والنثر، تغلغل الماء أثناء النور والزهر؛ وانتقلت من الجد إلى الهزل، انتقال الضحيان من الشمس إلى الظل، واستراحة البهير من الحزن إلى السهل؛ وتخللت ما ضممته من الرسائل والأشعار، بما اتصلت به أو قيلت فيه من الوقائع والأخبار؛ واعتمدت المائة الخامسة من الهجرة فشرحت بعض محتها، وجلوت وجوه فتنها، ولخصت القول بين قبيحها وحسنها؛ وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم، على هذا الإقليم، وألمعت الأسباب التي دعت ملوكها
1 / 17
إلى خلعهم، واجتثاث أصلهم وفرعهم؛ وعبرت عن أكثر ذلك، بلفظ يتتبع الهم بين الجونح، ويحل العصم سهل الأباطح؛ وعولت في معظم ذلك على تاريخ أبي مروان بن حيان، فأوردت فصوله ونقلت جمله وتفاصيله؛ فإذا أعوزني كلامه، وعزني سرده ونظامه، عكفت على طللي البائد، وضربت في حديدي البارد؛ على حفظ قد تشعب وحظٍ من الدنيا قد ذهب.
ومع أن الشعر لم أرضه مركبًا، ولا اتخذته مكسبًا، ولا ألفته مثوى ولا منقلبًا؛ إنما زرته لمامًا، ولمحته تهممًا لا اهتمامًا؛ رغبةً بعز نفسي عن ذله، وترفيعًا لموطئ أخمصي عن محله؛ فإذا شعشعت راحه، ودأبت أقداحه، لم أذقه إلا شميمًا، ولا كنت إلا على الحديث نديمًا؛ وما لي وله، وإنما أكثره خدعة محتال، وخلعة مختال؛ جده تمويه وتخييل، وهزله تدليه وتضليل؛ وحقائق العلوم، أولى بنا من أباطيل المنثور والمنظوم؛ وعلى ذلك فقد وعدت أن ألمع في هذا المجموع، بلمع من ذكر البديع؛ وأن أمهد جانبًا من أسبابه، وأشرح جملًا من أسمائه وألقابه؛ وإذا ظفرت بمعنى حسن، أو وقفت على لفظ مستحسن؛ ذكرت من سبق إليه، وأشرت إلى من نقص عنه
1 / 18
أو زاد عليه؛ ولست أقول: أخذ هذا من هذا قولًا مطلقًا، فقد تتوارد الخواطر، ويقع الحافر حيث الحافر؛ إذ الشعر ميدان، والشعراء فرسان.
وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء، بين دهر متلون تلون الحرباء؛ لانتباذي كان من شنترين قاصية الغرب، مفلول الغرب، مروع السرب؛ بعد أن استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم، علينا في عقر ذلك الإقليم؛ وقد كنا غنينا هنالك بكرم الانتساب، عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العتاد، عن التقلب في البلاد؛ إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، ولو ترك القطا ليلًا لنام؛ وحين اشتد الهول هنالك، اقتحمت بمن معي المسالك؛ على مهامه تكذب فيها العين الأذن، وتستشعر فيها المحن:
مهامه لم تصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه حتى خلصت خلوص الزبرقان من سراره، وفزت فوز القدح عند قماره؛ فوصلت حمص بنفسٍ قد تقطعت شعاعًا، وذهب أكثرها التياعًا؛ وليتني عشت منها بالذي فضلا! فتغربت بها سنوات أتبوأ منها
1 / 19
ظل الغمامة، وأعيا بالتحول عنها عي الحمامة؛ ولا أنس إلا الانفراد، ولا تبلغ إلا بفضلة الزاد؛ والأدب بها أقل من الوفاء، حامله أضيع من قمر الشتاء؛ وقيمة كل أحد ما له، وأسوة كل بلد جهاله؛ حسب المرء أن يسلم وفره، وإن ثلم قدره، وأن تكثر فضته وذهبه، وإن قل دينه وحسبه. وهذا الديوان نية لم يفصح عنها قول ولا عمل، وأمنية لم يكن منها حول ولا حول: كامن بين العيان والخبر، كمون النار في الحجر، وجار بين اللسان والقلب، جري الماء في الغصن الرطب؛ إلى أن طلع على أرضها شهاب سعدها وتمكينها، وهبت لها ريح دنياها ودينها، ونفخ فيها روح تأميلها وتأمينها، ملك أملاكها، وجذيل حكاكها، وأسعد نجوم أفلاكها؛ " فلان " ثمال المظلوم، ومال السائل والمحروم؛ ومحيي العلم، ومربع ذويه وحامليه، ومستدعي التأليفات الرائقة فيه؛ جعل الله الدهر أقصى أيامه، والنجوم مراكز أعلامه، والأرض نهبة سيوفه وأقلامه؛ فحامت عليه أطيارها، وأهل إليه حجاجها وزوارها، وانتثرت في يديه شموسها وأقمارها؛ من كل شعث ذي طمرين، مشنوء الأثر والعين، محروم محسود، محلأ عن طريق الماء مطرود؛ قد جعلوا بيوتهم قبورًا، واتخذوا بنات أفكارهم ولدانًا وحورًا، وركبوا الحدثان صعبًا وذولولًا، وعاهدوا الحرمان ليبلونه صبرًا جميلًا ﴿فمنهم من قضى نحبه
1 / 20
ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا﴾ (الأحزاب: ٢٣) . فما هو إلا أن سطع لهم هذا الشهاب، وفتح بينهم وبين روح الله ذلك الباب، حتى نفروا خفافًا وثقالًا، وابتدروا بطاءً وعجالًا؛ ينظرون بعيون لم ترو من ماء وجه كريم، ويصغون بآذان لم تأنس بنغمة صديق حميم؛ قد كانوا يئسوا من هذا النشور ﴿كما يئس الكفار من أصحاب القبور﴾ (الممتحنة: ١٣) فاسألهم أي جانب يمموا، وبأي جناب خيموا، وإلى أي ملك لبابٍ أنجدوا وأتهموا؛ ويا رحمتا لبحور أدب، وصدور رتب، كان نظمني وإياهم ود قديم، ولف هواي بهواهم عهد كريم، لا منسي ولا مذموم؛ قد طال ما عطيتهم أكؤس الخمول، على البكاء والعويل؛ في أيام أوحش من توديع الشباب، وليال انكد من مناقشة الحساب؛ ألا يكونوا قد أخذوا على القضاء عهدًا مسؤولًا، ومتعوا بالبقاء ولو قليلًا؛ حتى يروا حظ الأدب كيف نفق، وعز الإسلام كيف اتفق، وشمل الجور كيف تصدع وتفرق؛ ويا حسرتا ألا ينشق عن حاتم ضريحه، ويعاد في جسمه روحه؛ فيرى أن الكرم بعده علم، وأن علو الهمم بغيره بدئ وختم.
ولما سمعت صوت المهيب، وتنسمت ريح الفرج القريب، ووجدت لسبيل التأمل مدرجًا، وجعل الله لي من ربقة الخمول مخرجًا؛ طالعت حضرته المقدسة بهذا الكتاب على حكمه، مطرزًا بسمته واسمه؛ مستدلًا بمجده، متوسلًا إليه بكرم عهده؛ ولعلمي أن الأدب ضالة اهتباله، ونتيجة خلاله، وأن أهله على ذكر من إجماله، وبمكان مكين من كماله؛ ولما سئلت أيضًا انتساخ هذا
1 / 21
الديوان، ورأيت شره أهل الزمان، إلى الاقتباس من نوره، بما يلتقطونه من شذوره، أحببت أن يجوب الآفاق، وتسير به الرفاق، وعليه من اسم من له جمع، وإلى جوانبه العلية رفع، طراز به تنفق سوقه، ولا تضيع إن شاء الله حقوقه.
وقسمته أربعة أقسام:
الأول: لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس، ويشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء على جماعةٍ هم:
١ - المستعين بالله أبو أيوب سليمان بن الحكم، وحربه مع المهدي ابن عمه ومقتله.
٢ - والمستظهر بالله أبو المطرف عبد الرحمن بن عبد الجبار الناصري ومقتله.
٣ - والأديب أبو عمر أحمد بن دراج القسطلي، وإمارة علي ابن حمود ومقتله.
٤ - وأبو حفص بن برد الأكبر ومقتل عيسى بن سعيد القطاع وزير ابن أبي عامر.
٥ - والكاتب أبو المغيرة بن حزم.
والفقيه أبو محمد بن حزم الشافعي وخبر الأمير منذر بن يحيى التجيبي.
٧ - والوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد والوزير أبو
1 / 22
الوليد ابن عبدوس، والفقيه أبو العباس بن أبي الربيع، والأديب أبو علي بن عوض، والكاتب أبو بكر بن زياد.
٨ - وذو الوزارتين أبو الوليد بن زيدون وإمارة المستكفي وخبر ولادة.
٩ - والأديب أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط المكفوف، ونصب المرتضى الناصري خليفة بشرق الأندلس ومقتله.
١ - والأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء، وإمارة القاسم بن حمودٍ وتغلب القاضي ابن عباد عليه.
١١ - والوزير أبو حفص بن برد الأصغر.
١٢ - والأديب أبو مروان الطبني ومقتله، وأشعار الطبانية حفدته.
١٣ - والأديب أبو عبد الله محمد بن مسعود الهذلي وابن مسعود البجاني.
١٤ - والشيخ أبو مروان بن حيان، وإمارة بني جهور وخلعهم.
١٥ -.
1 / 23
١٦ - والوزير الكاتب أبو جعفر بن اللمائي.
١٧ - والكاتب أبو عبد الله بن الزلياني.
١٨ - والكاتب أبو جعفر بن عباس.
١٩ - والكاتب أبو حفص بن الشهيد.
٢٠ - والأديب أبو عبد الله بن الحداد، وإمارة بني صمادح وخلعهم.
٢١ - والأديب أبو محمد ابن مالك القرطبي.
٢٢ - والشاعر المنفتل، ومقتل ابن نغريلة اليهودي.
٢٣ - والأديب أبو المطرف عبد الرحمن بن فتوح الإسفيرياني.
٢٤ - والأديب أبو بكر بن ظهار.
٢٥ - والأسعد بن إبراهيم بن بليطة.
٢٦ - والأديب أبو عبد الله محمد بن عبادة بن القزاز.
٢٧ - والأديب أبو عبد الله محمد بن مالك الطغنري من أهل غرناطة؛ وجملة قصائد لغير واحد في تأبين ابن سراج.
٢٨ - والوزير الكاتب أبو مروان بن شماخ.
٢٩ - والفقيه أبو عمر أحمد بن عيسى الإلبيري.
٣٠ - والأديب العالم أبو محمد غانم.
٣١ - والأديب أبو عبد الله بن السراج المالقي.
٣٢ - والأديب أبو القاسم المعروف بالسميسر.
٣٣ - والأديب أبو العباس أحمد بن قاسم المحدث.
٣٤ - والأديب أبو طالبٍ عبد الجبار المعروف بالمتنبي من أهل جزيرة شقرٍ.
1 / 24