واصلت ممارسة المنهج الذي وصفته لنفسي، وإلى جانب حرصي بوجه عام على تحكيم جميع أفكاري لقواعد المنهج، فقد خصصت بضع ساعات بين الفينة والأخرى لتطبيقه أكثر على المسائل الرياضية بخاصة، ولقد قمت بتطبيقه أيضا على مسائل أخرى محددة، والتي استطعت صياغتها في شكل رياضي. (6 : 29)
ربما كانت «المسائل الرياضية» هي تضعيف المكعب وتثليث الزاوية. عرضت حلول ديكارت في باريس، وإن لم يكن قد توصل إليها هناك، على الرياضيين كلود ميدورج وسباستيان هاردي. ولعل «المسائل الأخرى المحددة» كانت تتعلق بالتقوس الأمثل لأنواع بعينها من العدسات. ومن المعروف أن ديكارت درس البصريات النظرية والتجريبية أثناء إقامته في باريس، وأحيانا بالتعاون مع ميدروج. ولقد أقام صداقة أيضا مع صانع أدوات بصرية يدعى فيرييه، وحاول الاستعانة به لاحقا كمساعد شخصي له.
تأتي الفقرة الثانية المستخلصة من «مقال عن المنهج»، والتي ربما تتعلق بأيام ديكارت في باريس، قرب نهاية الجزء الثالث، ويذكر فيها ديكارت أنه التزم ضربا من الحياد في المسائل الفكرية؛ حيث استقر رأيه، على حد قوله، على أن يكون مشاهدا بدلا من أن يكون فاعلا في أسفاره؛ فضل أن يكون ناقدا لأفكاره على أن يكون واضعا لنظريات خلال تأملاته الخاصة:
مرت هذه السنوات التسع ... دون أن أتحيز إلى أي جانب فيما يختص بالمسائل التي يناقشها المثقفون، أو دون أن أشرع في البحث عن أسس أية فلسفة أكثر يقينا من الفلسفة المتفق عليها؛ فالمثال الذي كان أمامي للمفكرين الكبار الكثر الذين سبق أن خاضوا في هذا المشروع، ولم تكلل جهودهم بالنجاح على حد علمي، جعلني أتخيل أن الصعوبات ستكون كبيرة جدا لدرجة أنني لن أجرؤ على البدء في المشروع في مرحلة مبكرة جدا لو لم ألاحظ أن البعض يروجون إشاعات بأنني انتهيت منه بالفعل. (6 : 30)
ويواصل حديثه قائلا إنه لم يفعل شيئا يشجع على ترويج تلك الشائعات، ولكن فور أن راجت حاول أن يرقى إليها، ويضع أسسا لفلسفة جديدة.
إلام كان ديكارت يشير عندما كتب عن «المسائل التي يشيع نقاشها بين المثقفين»؟ من المعلوم أنه في أغسطس عام 1624، تجمع أكثر من ألف نسمة في قاعة كبيرة في باريس للاستماع إلى دحض عام من أربع عشرة أطروحة ضد أرسطو ، لكن تم حظر النقاش بموجب مرسوم رسمي. ولاحقا نزولا على طلب السوربون، فرض حظر على تدريس أية قضية تنتقد العلماء المثقفين القدامى. وتصاعدت نبرة النقد الموجه إلى أرسطو، والمحتوى التعليمي بأكمله الذي تلقاه ديكارت وغيره من عامة الفرنسيين المتعلمين في عشرينيات القرن السابع عشر. وفي باريس، وجد هذا النقد ترحابا من شعب شهيته مفتوحة على كل ما هو شاذ وخليع في الأدب، وربما على الأفكار الثورية أيا كان نوعها في الفلسفة واللاهوت. دارت رحى محاكمة طويلة لأبرز الشعراء الساخرين في تلك الفترة، ويدعى تيوفيل دي ڤيو، بينما كان ديكارت في إيطاليا، وظلت عالقة بأذهان الناس في عام 1626 عندما انتقل إلى فرنسا. لقد جعلت المحاكمة من الشاعر بطلا شعبيا، وربما خلفت مجموعة كبيرة من أنصار الفنون الفاضحة والمتحررة، والنزعة التجديدية في الفلسفة.
وأيا كان الموقف الذي تبناه على الملأ، لم يستطع ديكارت أن يتجاهل الانتقادات الموجهة لأنصار الفكر المدرسي، أو يتجاهل الأثر المتنامي للأفكار الإلحادية بين معاصريه المثقفين. وكان ديكارت نفسه غير مهتم بالتعليم المدرسي. وربطت بينه وبين عدد كبير من رجال الكنيسة الكاثوليكية علاقة صداقة، ممن كانوا يتوقون لجعل الإيمان بالله موقرا فكريا، ومن بين هؤلاء مارين ميرسين، وهو راهب كاثوليكي ينتمي لأخوية مينيم، ويكبر ديكارت قليلا، وتصادفت أيام دراسته في لافليش مع أيام دراسة ديكارت هنالك. وفي الفترة بين عامي 1624 و1625، نشر ميرسين مجادلات له بحجم الكتب العادية ضد الكفر والإلحاد «الإباحي» من ناحية، والشك الفلسفي في إمكانية العلم من ناحية أخرى. وجاء الكتاب الأول الموجه ضد الإباحيين كردة فعل ضد الدعم الشعبي الواسع لتيوفيل أثناء محاكمته. أما المؤلف الديني المناوئ للشك؛ فقد حاول أن يفت في عضد نوع واحد محدد من النقد الموجه للتعليم المدرسي، والذي يفيد بأن الفيزياء والمنطق والرياضيات التي يتم تدرسيها في المدارس عقيمة؛ لأن العلم نفسه - ويراد المعرفة الثابتة المنتظمة - تتجاوز قدرات البشر. ورد ميرسين على هذا النقد ببيان أن الرياضيات، على أية حال، تقع ضمن نطاق قدرات البشر، وهي بذلك تستحق أن تسمى «علما». وكما سيتضح لنا ، فقد كرس ديكارت أفضل مؤلف له على الإطلاق، وهو بعنوان «تأملات في الفلسفة الأولى»، للموضوعات التي ناقشها ميرسين في مجادلاته، لكن هذا كان في مرحلة لاحقة جدا.
خلال الفترة التي عاشها ديكارت في باريس، لا بد أنه كان على دراية بالجدل الدائر حول الإلحاد ومذهب الشك، ولكن الأرجح أنه لم يشارك في أي نقاشات متعلقة بالأمر. ولاحقا، وتحديدا بعد أن غادر باريس، حرص ميرسين على إطلاع ديكارت على التطورات الجديدة في النقاشات الدائرة، خاصة فيما يتعلق بمذهب الشك. بداية من أواخر عشرينيات القرن السابع عشر، لعب ميرسين دور مراسل ديكارت الأساسي، إضافة إلى أدوار المروج والباحث والوكيل الأدبي والسكرتير الاجتماعي والمساعد العلمي المؤقت له. ولعل ميرسين ساعده أيضا في التعرف على العلماء والرياضيين المحليين خلال الفترة التي أمضاها في باريس. ولقد أقام ديكارت صداقات أيضا إبان تلك الفترة برجال آخرين من الكنيسة، ولا شك أنه تأثر بهم. وساعد جيوم جيبيوف، العضو بالجمعية الدينية الفرنسية التابعة للكنيسة الكاثوليكية والتي تأسست آنذاك في باريس، على تشكيل بعض آراء ديكارت عن البشر والإرادة الإلهية. وبتدخل من بيير بيرول، الكاردينال المؤسس للجمعية الدينية الجديدة، قطع ديكارت على نفسه عهدا أن يكرس حياته لتصحيح مسار الفلسفة.
وجاء تدخل بيرول استجابة لخطبة مبهرة ألقاها ديكارت عندما دعي لعرض آرائه عن محاضرة انتقدت فيها الفلسفة المدرسية. ألقى كيميائي، يدعى شاندو، هذه المحاضرة على جمهور تضمن ديكارت وبيرول بمقر السفير البابوي في باريس، ربما في خريف عام 1627. وتحدث شاندو بأسلوب مقنع، وحصل على استحسان الجميع فيما خلا ديكارت. ودعا بيرول ديكارت للرد، فجاء رد ديكارت في خطبة بديعة جدا لدرجة أنه استمال الجميع إلى وجهة نظره الشخصية. وبينما اتفق ديكارت مع شاندو على أن الحاجة تستدعي وجود ما يحل محل الفلسفة المدرسية، حاجج ديكارت بأن أي شيء يحل محلها يجب أن يسترشد بمنهج للاستدلال قادر على أن يفضي إلى اليقين لا الخلوص إلى نتائج محتملة وحسب. ومن الواضح أن ديكارت بين المنهج المأمول؛ فعندما استرجع خطابه في رسالة كتبها عام 1631، ذكر شخصا كان حاضرا، ويدعى إتيان دو فليبريسو، قائلا: «لقد شهدت ... نتيجتين من نتائج قاعدة المنهج الطبيعي الرصينة التي وضعتها في النقاش الذي أجبرت على خوضه في حضور ... هذا الجمع من المثقفين والمتعلمين بمقر السفير الباباوي» (1 : 212). ولعل استعراض ديكارت في خطابه هذا هو الذي أشاع أنه اكتشف أسسا جديدة للفلسفة.
بعد محاضرة شاندو بفترة وجيزة، التقى بيرول ديكارت على انفراد، وتأكد من أنه سيكرس نفسه لإصلاح الفلسفة استنادا إلى المنهج الجديد. ووفى ديكارت بالعهد الذي قطعه بأن عمل على مؤلفه «قواعد لتوجيه الفكر». لقد كانت مهمة وصف منهجه وتطبيقه خارج نطاق الرياضيات على أية حال ضمن أجندة أعماله لفترة طويلة؛ ولذلك لم يكن ديكارت يكرس نفسه لمشروع جديد بقدر ما كان يقرر أخيرا تنفيذ خطة مؤجلة منذ فترة طويلة. ومع ذلك، فقد قام ديكارت بشيء يؤهله للقيام بمهمته الجادة. خلال شتاء 1627-1628، قصد معتزلا خاصا تاركا الدوائر الباريسية المسايرة للموضة التي كان يستمتع بالعيش فيها كلما تحرر من انشغاله بمشروعاته العلمية. وافقت تلك الفترة بداية حقبة من الاعتزال بدأت فعليا برحيله إلى هولندا من باريس في خريف عام 1628.
صفحة غير معروفة