عيوب تشييد البناء في دار الفناء
الناشر
بدون ناشر فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية
مكان النشر
الرياض
تصانيف
عيوب تشييد البناء في دار
الفناء
للشيخ
عبد الكريم بن صالح الحميد
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد فإنه ما شُيّد البناء وزخرف مثل زماننا هذا أبدًا من حين أهبط الله آدم ﵇ إلى الأرض ليعمرها وذريته بطاعته كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: ٥٦] فهذا هو الحكمة من خلق آدم وذريته والجن أيضًا.
ولما اقتضت حكمة الحكيم سبحانه خلق الإنس والجن لعبادته فكان لا بد لهم من مكان يعبدونه فيه وفيه يعيشون فلذلك أهبط الله آدم إلى الأرض ليعبده فيها هو وذريته.
وهو سبحانه خلق الأرض قبل ذلك لتكون المكان الملائم لهم كما خلق السموات لتكون المكان الملائم للملائكة ﵈. وقد ذكر سبحانه في آيات من كتابه الكريم أنه خلق السموات والأرض بالحق. وهو عبادته وحده باتباع رسله ﵈. فهذا هو الحق الذي خلقت له السموات والأرض فما خرج عن
1 / 3
هذا الأصل الأصيل فهو ضلال وتضليل. وقد كَثُر في كلام المتأخرين أن الله خلق الإنسان ليعمر الأرض وجعله خليفة فيها ليعمرها فيذهبون بفهمهم الفاسد إلى ما يُناسب أهوائهم من تشييد الدنيا بالبناء وغيره مما ينافي الحكمة من خلق الكون كله لا سيما الأرض والإنسان.
وقد جاءت السنة والآثار بل وآيات الكتاب ببيان الأمر على حقيقته فقد ذمّ الله عمّار الدنيا المغترين بها.
وفي سنن أبي داود عن أنس ﵁ قال: خرج رسول الله ﷺ ونحن معه فرأى قبة مشرّفة فقال ما هذه؟ قال أصحابه: هذه لفلان رجل من الأنصار فسكت وحملها في نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله ﷺ سلّم عليه في الناس فأعرض عنه. صنع ذلك مرارًا حتى عرف الرجل الغضب في وجهه والإعراض عنه فشكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنكر رسول الله ﷺ. قالوا: خرج فرأى قبتك. فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض فخرج رسول الله ﷺ ذات يوم فلم يرها قال: ما فعلت القبة؟ قالوا شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها فقال: "أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا" أي ما لا بد منه.
1 / 4
وقد قال ﷺ "ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتًا مزوّقًا" أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد في المسند.
فالنبي ﷺ شفيق على أمته رحيم بهم وقد بعثه الله ﷿ يحذرهم الدنيا والركون إليها والاطمئنان بها لأنها دار نقلة ودار فناء وزوال ليست دار إقامة وبقاء وأنزل عليه سبحانه قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [البقرة: ٢١٢]. فهي إنما زينت للكافرين لا للمؤمنين والمزين لها هو الشيطان. مثل قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ) [آل عمران: ١٤] الآية ومثل قوله تعالى: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر:٨] كل هذا الفاعل فيه محذوف وهو الشيطان.
فالنبي ﷺ خاف على أمته الشيطان الغرور أن يغرّ أمته فيركنوا إلى دار الغرور.
وأخبرهم أن لهم دارًا غير هذه إنما خلقوا لها ولم يخلقوا لهذه الفانية والتي أعمارهم فيها قصيرة يقطعها عليهم الموت الذي لا يترك
1 / 5
أحدًا مخلدًا فيها. فدار المقامة والخلود والنعيم المقيم الأبدي السرمدي أمامهم إن أطاعوه.
وأخبرهم بعاقبة من أثاروا الأرض وعمروها والذين قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: ١٥]، والذين أقسموا ما لهم من زوال. والذين (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) [الحجر: ٨٢] وقال سبحانه: (نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا) [مريم: ٤٠] وقال تعالى: (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) [الكهف: ٨] بعد أن قال سبحانه: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف: ٧] فقد أخبر بالحكمة من وجودها وأخبر بنهايتها.
والقرآن مليء من ذم الدنيا وعمارتها وذكر عاقبة من اغتر بها.
فالنبي ﷺ غضب لما رأى بناء مشيدًا متميزًا عن بيوت الأنصار ﵃. وهو قبة مشرفة من الطين وأهل وقتنا كثير منهم لا يرضون استعمالها ولا حتى للبهائم.
أو يظن الظان أن ما خوطب به الصحابة ﵃ يخصهم دون الأمة بعدهم؟ وهو ﷺ قد أمر الأمة كلها بلزوم هديه وهدي
1 / 6
أصحابه ونهى عن الإحداث وكفأ الدنيا وما أقام لها وزنًا وحذر عنها غاية التحذير وخافها على أمته من بعده. وقد وقع المحذور.
وفعله ﷺ هذا غاية الشفقة والرحمة والنصح لأمته لئلا يغرهم الشيطان فيخلدوا إلى دار الغرور كالذين من قبله ممن حلّت بهم المثلات.
وانظر ما فعل هذا الأنصاري ﵁ من اغتمامه لإعراض نبيه عنه وبحثه عن السبب وسمعه وطاعته وسهولة قياده يتبين لك بعض أحوال الصحابة ﵃.
ولأن الدنيا ليست بدار إقامة فقد نبّه لذلك ﷺ أمته وحذرهم من الركون إليها فعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله ﷺ بثوبي أو ببعض جسدي فقال: "يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور".
قال مجاهد: وقال لي عبد الله: يا مجاهد إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من حياتك قبل موتك ومن صحتك قبل سقمك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا ..
1 / 7
إذا كنت في الدنيا بصيرًا فإنما ... بلاغُك منها مثل زاد المسافر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
وقال الهيثمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر": وفي الطبراني بإسناد جيد: "إذا أراد الله بعبد شرًا أحضر له اللبن والطين حتى يبني" إذا كان هذا في اللبن والطين فكيف بما نحن فيه اليوم؟ وليس هذا على إطلاقه فقد تقدم في الحديث استثناء ما لا بد منه. فالذي لا بد منه هو ما يكنّ الإنسان عن البرد والحر والمطر ويستره كحال السلف. وكما كانت المدينة في عهد رسول الله ﷺ. فلم يكن للعرب حتى قبل الإسلام التفات إلى تشييد البناء وزخرفته ولذلك كانت مساكن الأنصار ﵃ لا تزيد عن حاجتهم وضروراتهم دون زخرفة وأصباغ.
وقد صار في وقتنا من المألوف بل ومن المعروف أن يُشيَّد البناء بقوة لم يسبق لها نظير وأكثر من يفعل هذا من حلّ الشيب بساحته فالاغترار هنا بالدنيا ظاهر لكن استحكام الغفلة مع حُجب الذنوب أعظم ساتر.
يا عامر الدنيا على شيبه ... فيك أعاجيب لمن يعجب
ما عُذر من يعمر بنيانه ... وعمره منهدم يخرب
1 / 8
وفي الأدب المفرد للبخاري ﵀ عن النبي ﷺ قال: "لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتًا يوشونها وشي المراحيل "وهو حديث صحيح. والمراحيل فسّرها إبراهيم شيخ البخاري بأنها الثياب المخططة.
وفي النهاية لابن الأثير: "المرحّل الذي قد نُقِش فيه تصاوير الرّحال. ومنه الحديث: "كان يصلي وعليه من هذه المرحّلات". يعني المروط المرحّلة. وتجمع على المراحل. ومنه هذا الحديث. "يوشْونها وشي المراحل ويقال لذلك العمل: الترحيل ..
بلا شك أن المراد بهذا الحديث هو ما وجد في وقتنا وأن ذلك من علامات قرب الساعة فها هي العمارات الحادثة تصبغ بالأصباغ كما تصبغ الثياب وهو الوشي.
أمسوا رميمًا في التراب وعُطّلت ... مجالسهم منهم وأُخْلي مقاصر
وحلّوا بدار لا تزاور بينهم ... وأنّى لسكان القبور التزاور
فما إن ترى إلا قبورًا ثَوَوْا بها ... مُسَنّمة تَسْفي عليها الأعاصر
إذا ذكر الحسن ﵀ صاحب الدنيا يقول: والله ما بقيت الدنيا له ولا بقي لها ولا سلم من تبعتها وشرها وحسابها. ولقد أُخرج منها في خرقة. قال وكيع: مررت مع سفيان الثوري
1 / 9
على دار مشيدة فرفعت رأسي أنظر إليها. فقال: لا ترفع رأسك تنظر إليها إنما بنوْها لهذا ..
وفي الصحيحين أثر خباب ابن الأرت ﵁ "إن أصحابنا الذين سلفوا ومضوا لم تنقصهم الدنيا وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب" ثم قال ﵁ "إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب".
هذا له حكم المرفوع حيث لا يقال مثله بالرأي.
ثم إن خبابًا ﵁ يذكر هذا في بنائهم المعروف فكيف بالتشييد والزخرفة والتزويق والإسراف والتبذير. الذي يعقبه ولا بد التفرق والشتات.
قف في ديار بني اللذات معتبرًا ... وانظر إليها ولا تسأل عن الخبر
ففي الذي فعلت أيدي الشتات بهم ... من بعد إلفتهم معنى لمعتبر
وقال البخاري ﵀ في كتابه "الأدب المفرد" في باب النفقة في البناء "عن خباب قال: إن الرجل ليؤجر في كل شيء إلا البناء.
إذا لم تكن دنياك دار إقامة ... فمالك تبنيها بناء مقيم
وفي "الأدب المفرد" للبخاري ﵀ عن عبد الله بن عمرو قال: مر النبي ﷺ وأنا أصلح خُصًّا لنا فقال: "ما هذا؟ " قلت: أصلح
1 / 10
خصنا يا رسول الله فقال: "الأمر أسرع من ذلك" وهو حديث صحيح.
يا من بنى القصر في الدنيا وشيده ... أسست قصرك حيث السيل والغرق
لا تغفلن فإن الدار فانية ... وشربها غصص أو صفوها رنَق
والموت حوض كريه أنت وارده ... فانظر لنفسك قبل الموت يا مذق
وفي "الأدب المفرد" أيضًا في "باب التطاول في البناء" أن الحسن يقول: كنت أدخل بيوت أزواج النبي ﷺ في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي.
يا عامر الدنيا ليسكنها وليست ... بالذي يبقى لها سكان
تفنى وتبقي الأرض بعدك مثلما ... يبقى المناخ ويرحل الركبان
عن عمرو بن مهاجر قال:
كان لعمر بن عبد العزيز ﵁ بيت يخلو به وفي ذلك البيت ما ترك رسول الله ﷺ فإذا سرير مَرْمول بشريط وقعب يشرب فيه الماء وجرّة مكسورة الرأس يجعل فيها الشيء ووسادة من أدم محشوة بليف وقطيفة غبراء كأنها من هذه القطف الجرمقانية فيها من وسخ شعر رسول الله ﷺ ثم يقول: يا قريش هذا تراث من أكرمكم الله
1 / 11
﷿ به وأعزكم يخرج من الدنيا على ما ترون .. من كتاب الزهد للإمام أحمد ص٦.
ما لنفسي عن معادي غفلت ... أتُراها نسيت ما فعلت
أيها المغرور في لهو الهوى ... كل نفس سترى ما عملت
أفّ للدنيا فكم تخدعنا ... كم عزيز في هواها خَذَلت
رُبّ ريح بأناس عصفت ... ثم ما إن لبثت أن سكنت
وكذا الدهر في تصريفه ... قدَمٌ زلّت وأخرى ثبتت
ويد الأيام من عاداتها ... أنها مفسدة ما أصلحت
أين من أصبح في غفلته ... في سرور ومرادات خلت
أصبحت آماله قد خسرت ... وديار لهوه قد خربت
فغدت أمواله قد فُرِّقت ... وكأن داره ما سكنت
جُزْ على الدار بقلب حاضر ... ثم قل يا دار ماذا فعلت
أوجهٌ كانت بدورًا طُلعًا ... وشموسًا طالما قد أشرقت
قالت الدار تفانَوْا فمضوا ... وكذا كل مقيم إن ثبت
عاينوا أفعالهم في تربهم ... فاسأل الأجداث عما اسْتُودعت
كل نفس سوف تلقى فعلها ... ويح نفس بهواها شُغِلت
إنما الدنيا كظل زائل ... أو كأحلام منام ذهبت
1 / 12
وفي "الأدب المفرد" قال عبد الله الرومي: دخلت على أم طلق فقلت: ما أقصر سقف بيتك هذا. قالت: يا بني إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ كتب إلى عماله: أن لا تطيلوا بنائكم فإنه من شر أيامكم.
ألا أيها الباني لغير بلاغه ... ألا خراب الدهر أصبحت بانيا
ألا لزوال العمر أصبحت بانيًا ... وأصبحت مختالًا فخورًا مباهيًا
كأنك قد وليت عن كل ما ترى ... وخلّفت من خلّفته عنك ساليا
كان لأبي وائل بيت من قصب يكون هو وفرسه فيه فإذا غزا نقضه وتصدق بقصبه وإذا رجع أنشأ بناءه.
وفي الحلية ٧/ ٣٠٤ قال سفييان بن عيينة: بلغ عمر بن الخطاب أن رجلًا بنى بالآجر فقال: ما كنت أحسب أن في هذه الأمة مثل فرعون. قال: يريد قوله: "ابن لي صرحًا" و"أوقد لي يا هامان على الطين"
فما صرفت كفّ المنيّة إذ أتت ... مبادرة تهوي إليه الذخائر
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى ... وحفّ بها أنهاره والدساكر
قال أبو الدرداء ﵁: أمّلوا بعيدًا وبنوا شديدًا فأصبح أملهم غرورًا. وأصبح جمعهم بورًا. وأصبحت بيوتهم قبورًا.
1 / 13
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يُلهى به ... يومًا يصير إلى بلىً ونفاد
وفي الحلية ٧/ ٣٠٥ عن راشد بن سعد قال: بلغ عمر أن أبا الدرداء بني كنيفًا بحمص فكتب إليه: أما بعد يا عويمر أما كانت لك كفاية فيما بنت الروم عن تزيين الدنيا وتجديدها وقد آذن الله بخرابها فإذا أتاك كتابي هذا فانتقل من حمص إلى دمشق.
قال سفيان: عاقبه بهذا.
"الكنيف": يشبه السور حول البيت.
تُخَرّب ما يبقى وتعمر فانيا ... فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر
وهل لك إن وافاك حتفك بغتة ... ولم تكتسب خيرًا لدى الله عاذر
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ... ودينك منقوص ومالك وافر
وفي الحلية عن سفيان بن عيينة قال: بلغني أن الدجال يسأل عن بناء الآجر هل ظهر بعد. "الحلية ٧/ ٣٠٥".
الآجر هو الطين يحرّق فيتصلب قليلًا. ويظهر أن ظهور ذلك من علامات قرب خروجه .. وإذا كان ذلك كذلك فكيف بما نحن فيه؟ وقال ابن جرير في تفسيره ٨/ ٥٥ عند قوله تعالى: " (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) " قال: قال شعبة: كنت
1 / 14
أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال: هذا التبذير في قول عبد الله بن مسعود: إنفاق المال في غير حقه. تأمل وانظر ما نحن فيه.
خلت دورهم منهم وأقْوَت عِراصهم ... وساقتهم نحو المنايا المقادر
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها ... وضمّهموا تحت التراب الحفائر
كان لصفوان بن محرز خُصّ فيه جذع فانكسر الجذع. فقيل له: ألا تصلحه؟ فقال: دعوه أنا أموت غدًا.
وقد قيل في وصف الدنيا:
أحلام نوم أو كظل زائل ... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
قال العلماء: وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي لعاقل أن يخدع بها.
سبيل الخلق كلهم الفناء ... فما أحد يدوم له بقاء
يقربنا الصباح إلى المنايا ... ويدنينا إليهن المساء
فلا تركب هواك وكن مُعِدًّا ... فليس مقدرًا لك ما تشاء
أتأمل أن تعيش وأيّ غصن ... على الأيام طال له النماء
تراه أخضر العيدان غضًّا ... فيصبح وهو مسود غثاء
وجدنا هذه الدنيا غرورًا ... متى ما تُعْطِ يُرْتجع العطاء
فلا تركن إليها مطمئنًا ... فليس بدائم منها الصفاء
1 / 15
وفي الحلية ٤/ ١٢ قيل لطاووس: إن منزلك قد استهدم قال: قد أمسينا ..
ومُشيدٌ دارًا ليسكن داره ... سكن القبور وداره لم تسكن
وقال عيسى ﵇: يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارًا؟ قالوا: يا روح الله ومن يقدر على ذلك؟ قال" إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارًا. وقال ﵇: بحق أقول لكم إن أكل خبز البر وشرب الماء العذب ونوم على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس.
وقال الحواريون: يا عيسى من أولياء الله ﷿ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها فأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم. وتركوا ما علموا أن سيتركهم. فصار استكثارهم منها استقلالًا. وذكرهم إياهًا فواتًا. وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا. فما عارضهم من نائلها رفضوه. وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه. وخَلِقتْ الدنيا عندهم فليسوا يجددونها. وخربت بينهم فليسوا يعمرونها. وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها. يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها
1 / 16
فيشترون بها ما يبقى لهم. ورفضوها فكانوا فيها هم الفرحين. ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلّت فيهم المثلات وأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة. يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره ويضيئون به. لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب. بهم قام الكتاب وبه قاموا. وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا. وبهم عُلم الكتاب وبه عُلِموا. وليسوا يرون نائلًا مع ما نالوا. ولا أمانًا دون ما يرجون. ولا خوفًا دون ما يحذرون ..
وكيف يَلَذُّ العيش من كان موقنًا ... بأن المنايا بغتة ستعاجله
فتسلبه ملكًا عظيمًا ونخوة ... وتسكنه البيت الذي هو آهله
وكيف يلذُّ العيش من كان صائرًا ... إلى جدث تُبْلي الشباب مناهله
ويذهب رسم الوجه من بعد صونه ... سريعًا ويبلى جسمه ومفاصله
وقال عيسى ﵇: أعبروها ولا تعمروها. فوصفها كالقنطرة التي لا يُستقر عليها إنما هو العبور.
وما المرء إلا راكب ظهر عمره ... على سفرًٍا يفنيه في اليوم والشهر
يبيت ويُضحي كل يوم وليلة ... بعيدًا من الدنيا قريبًا من القبر
نقل ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية ٩/ ٧٤" عن ابن جرير أنه في سنة ثمان وثمانون قدم كتاب الوليد بن عبد الملك على عمر بن
1 / 17
عبد العزيز لما كان أميرًا على المدينة يأمره بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج الرسول ﷺ ويوسعه من قبلته وسائر نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع. فمن باعك ملكه فاشتره منه وإلا فقوّمه له قيمة عدل ثم اهدمه وادفع إليهم أثمان بيوتهم فإن لك في ذلك سلف صدق عمر وعثمان.
فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس والفقهاء العشرة وأهل المدينة وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين الوليد فشق عليهم ذلك وقالوا: هذه حجر قصيرة السقوف وسقوفها من جريد النخل وحيطانها من اللبن وعلى أبوابها المسوح. وترْكها على حالها أولى لينظر الحجاج والزوار والمسافرون إلى بيوت النبي ﷺ فينتفعوا بذلك ويعتبروا به. ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا فلا يعمرون فيها إلى بقدر الحاجة وهو ما يستر ويُكِن. ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها.
فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر وأن يُعْلي سقوفه. فلم يجد عمر بدًا من هدمها.
1 / 18
ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم وتباكوا مثل يوم مات النبي ﷺ إلى آخره ..
انظر قولهم: فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة وهو ما يستر ويُكِن. لأن هذا هو المراد من المسكن أن يستر أهله ويُكنّهم من الحر والبرد والمطر وما عدا ذلك فهو مذموم كما تقدم.
أياباني الدنيا لغيرك تبتني ... ويا جامع الدنيا لغيرك تجمع
ألم تر أن المرء يحبس مالَهُ ... ووارثه فيه غدًا يتمتع
كأن الحماة المشفقين عليك قد ... غَدَوْا بك أو راحوا رَواحًا فأسرعوا
وما هو إلا النعش لو قد دَعَوا به ... تُقَلّ فتلقي فوقه ثم تُرْفع
قال عمر ﵁: والله لكأن الدنيا في الآخرة كلها كنفجة أرنب.
يا ساكن الدنيا أتعمر منزلًا ... لم يبق فيه مع المنية ساكن
الموت شيء أنت تعلم أنه ... حق وأنت بذكره متهاون
إن المنية لا تؤامر من أتت ... في نفسه يومًا ولا تستأذن
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [الشعراء: ١٢٨، ١٢٩] قال:
1 / 19
أي لكي تقيموا فيها أبدًا وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال عمّن كان قبلكم.
ثم ذكر ما رواه ابن أبي حاتم أن أبا الدرداء ﵁ لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصْب الشجر قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
ألا تستحيون ألا تستحيون: تجمعون ما لا تأكلون وتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون. إنه قد كانت لكم قبلكم قرون يجمعون فيوعون. ويبنون فيوثقون.
ويأملون فيطيلون فأصبح أملهم غرورًا. وأصبح جمعهم بورًا. وأصبحت مساكنهم قبورًا. ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعمان خيلًا وركابًا، فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟ ٣/ ٣٤١ التفسير.
أيها الشامت المعيِّر بالدهـ ... ـر أأنت المبرأُ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيـ ... ـام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خَلدْن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى أنوُشَرْ ... وان أم أين قبله سابور
1 / 20
واخو الحَضْر إذ بناه وإذ دِجـ ... لة تُجبى إليه والخابور
شادَهُ مرمرًا وجلّله كِلْـ ... سًا فللطير في ذُراه وُكور
لم يَهَبْه ريب المنون فباد الـ ... ـملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخوَرْنق إذ أشـ ... ـرف يومًا وللهدى تفكير
سرَّهُ ما له وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضًا والسّدير
فارعوى قلبه وقال وما غِبـ ... ـطة حيّ إلى الممات يصير
وفي كتاب التوابين لابن قدامة أن ملكًا من ملوك أهل البصرة تنسّك ثم مال إلى الدنيا والسلطان فبنى دارًا وشيدها. وأمر بها ففرشت له ونجّدت. واتخذ مائدة وصنع طعامًا ودعا الناس فجعلوا يدخلون عليه ويأكلون ويشربون وينظرون إلى بنيانه ويعجبون من ذلك ويدعون له ويتفرقون:
فمكث بذلك أيامًا حتى فرغ من أمر الناس. ثم جلس ونفر من خاصة إخوانه فقال: قد تروْن سروري بداري هذه وقد حدّثت نفسي أن اتخذ لكل واحد من ولدي مثلها فأقيموا عندي أيامًا استمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا البناء لولدي. فأقاموا عنده أيامًا يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني لولده وكيف يريد
1 / 21