وقال الدينوري: «كان الحجاج يقول: ما نظرت إلى عبد الرحمن قط إلا اشتهيت أن أضرب عنقه.»
38
نفرت الناس إلى ابن الأشعث حينما اقترب من العراق، وهب الغاضبون من كل صوب إلى اللحاق به، فكثرت جموعه حتى قاربت المائة ألف، إنه مهما يكن من المبالغة في هذا العدد فلا شبهة أن مركز الحجاج أصبح مزعزع الأركان ضعيفا لا يلبث أن يسقط إن لم يتداركه الأمويون بالنجدات المتوالية. فعمد عبد الملك إلى مخابرة ابن الأشعث وسماع مطاليبه، وعرض عليه أولا نزع الحجاج عن العراق وإجراء الدولة العطاء على العراقيين كما تجريه على أهل الشام، ثانيا: الخيار لابن الأشعث في حكم أي مصر شاء من العراق ما دام حيا.
وقد أرسل عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان إلى ابن الأشعث ليتفقا معه، فتخلص له طاعته ويحقن دماء المسلمين، وكان من رأي ابن الأشعث أن يعقد الصلح مع الأمويين وينزل عند مطاليبهم، لكن عاملان اعترضا سبيله وجعلاه يرجع خائب الآمال. الأول: نشاط الحجاج إلى إقناع عبد الملك أن العراقيين لا يلبثوا أن يخالفوه ويسيروا إليه ويجدوا في حربه إن خلعه عنهم وأعطاهم ما شاءوا، ولا يزيدهم ذلك - في عرفه - إلا جرأة وعداء، وذكر له أن الحديد بالحديد يفلح، وقد وقف الحجاج هذا الموقف لأن منصبه أصبح على شفا جرف هار، فكان له ما أراد، والثاني: اعتقاد العراقيين أنه بوسعهم طرد بني أمية من العراق؛ خصوصا بعد أن تغلبوا على جيوش الحجاج في المناوشات الأولى وفازوا باحتلال البصرة والكوفة، فقالوا: «إن الله قد أهلكهم - جند الحجاج - فأصبحوا في ... والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرفيع والمادة القريبة، ولا والله لا نقبل فأعادوا خلعه - لعبد الملك - ثانية.»
39
انسحب الحجاج من البصرة إلى الشمال بعد أن جعلها مقرا لأعماله الحربية، وذلك حينما وجد جموعه قليلة نسبة للجموع الأشعثية، ولم تكد البصرة تسقط بأيدي الثوار حتى وثبت الكوفة وطردت عامل الحجاج عنها فاحتلها ابن الأشعث، وقد طاول الحجاج ابن الأشعث إلى أن أتته النجدات المتواصلة من الشام، ثم التقى به في «دير الجماجم» - موضع قريب من الكوفة - وأخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وقد دامت المعركة نحوا من مائة يوم - 2 ربيع الأول إلى 15 جمادى الأخرى سنة 83ه/702م - حتى تم الفوز للحجاج، فهرب ابن الأشعث إلى الفلوجة ومنها للبصرة، وبدأت فلوله تأتيه من الأطراف وتجتمع إليه من الجهات، وراح يستعد لمناجزة الحجاج الوقيعة، فاشتبك الفريقان في «مسكن» على دجيل، فانهزم العراقيون ومضى ابن الأشعث إلى سجستان حيث قضى مسلولا، ويقال: إن رتبيل ملك تركستان احتز رأسه وأرسله إلى الحجاج بشرط أن لا تغزى بلاده مدة عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنة تسعمائة ألف، والمهم أن حركة ابن الأشعث التي أيدت لنا نفور العراقيين من الحكم الأموي أخمدت بالسيف، وتتبع الحجاج الزعماء الذين ناوءوه وجهدوا عليه الجهد كله، فأعدم معظمهم، وكتب إلى عماله في الجهات أن لا يبقوا على أحد منهم. (3) إخلاص الولاة الأمويين في العراق وتفانيهم في تنفيذ سياسة الشدة
إذا أردنا أن يكون لنا صورة حية تمثل خضوع الولاة الأمويين في العراق لسادتهم الأمويين وإخلاصهم لهم الإخلاص التام في السر والعلن ومحافظتهم على طاعتهم مهما كلفهم ذلك من التضحية؛ فلنأخذ الحجاج بن يوسف مثلا صادقا. (3-1) الحجاج بن يوسف: حياته، أعماله
ولد الحجاج بين سني تسعة وثلاثين وإحدى وأربعين هجرية، و659 و661م في قرية الكوثر من أعمال الطائف، وأمه الفارعة بنت همام، وكانت عند المغيرة بن شعبة فطلقها فتزوجها بعده يوسف أبو الحجاج،
40
وكان في صباه معلما يقرئ صبيان قريته القرآن الكريم، نستشهد على ذلك بقول الشاعر:
صفحة غير معروفة