وأما الفئة الثانية:
فليس لها أن تحكم على شاب ربي في محيط شامي يختلف تمام الاختلاف عن المحيط الحجازي الذي عاش في كنفه الخلفاء الراشدون، فالمحيط الحجازي هو مركز الزهد والتقشف والتمسك برابطة الدين وتعاليمه، بينما دمشق هي عاصمة البيزنطيين الشامية وفيها من أسباب مدنيتها ما أدهش العرب وجعلهم مع الزمن ينسجون على منوالها ويقتبسون فوائدها، ومما لا ريب فيه أن المؤرخين يرتكبون خطأ فاحشا إذا جعلوا مقياس حكمهم على يزيد هو المقياس الذي يقيسون به أعمال عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة مثلا، وإن لكل زمن مقياسا، فلا يمكنك البتة أن تحكم على ابن القرن الثاني وتزن أعماله بميزان ابن القرن الأول، ناهيك أيضا باختلاف الأمكنة ومؤثراتها، فالشام هو غير الحجاز والحجاز هو غير العراق، وقس على ذلك. (2-2) وفاة معاوية، مراسم الدفن
أعلن الضحاك بن قيس الوزير الأول في الدولة الأموية إذ ذاك وفاة معاوية، فصعد منبر المسجد الجامع ومعه أكفان الخليفة الحليم وقال: «أيها الناس ... إن معاوية بن أبي سفيان كان عبدا من عباد الله، ملكه على عباده، فعاش بقدر ومات بأجل، وهذه أكفانه كما ترون، نحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين ربه، فمن أحب منكم أن يشهد جنازته فليحضر بعد صلاة الظهر.»
1
بمثل هذه الكلمات الموجزة البليغة ودع الضحاك معاوية وواراه الناس في مرقده الأخير، ولدى البحث والتدقيق وجدنا أن هذه الخطبة هي شبيهة كل الشبه برسالة بعث بها يزيد الأول لدى تسنمه عرش الخلافة إلى الوليد بن عتبة والي المدينة يخبره بوفاة أبيه فيقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد، فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له، فعاش بقدر ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محمودا ومات برا تقيا والسلام»،
2
مما يؤيد لنا أن الرسالتين صدرتا من دائرة مخصوصة في بلاط يزيد لها لون واحد وروح واحدة، ولعلها - ونحن هنا نتكهن - للضحاك نفسه. (2-3) يزيد الشديد
يتأكد طالب التاريخ لدى دراسته أحوال يزيد أنه كان يميل إلى الشدة في تثبيت دعائم ملكه، فلم يتوان ولم يكسل ولم يغض النظر عن الزعماء الذين أرادوا الوثوب به والتنكيل بحزبه، فأرسل إلى الولاة في الأطراف يطلب منهم البيعة له دون إبطاء ولا مماطلة، يثبت لنا رأينا هذا رسالته إلى الوليد بن عتبة حاكم المدينة، فهو يأمره بها أن لا يتساهل البتة مع الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وأن يكون لهم بالمرصاد إذا أرادوا العصيان والثورة.
ويروي لنا الطبري نص الرسالة كما يأتي: «... أما بعد، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام»،
3
صفحة غير معروفة