ونضيف هنا ما جاء في تفسير القرطبي: «قال قتادة: أمر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم، وعاتبه على المشاورة في الأسرى: ما كان لنبي أن يتخذ أسرى حتى يثخن في الأرض.»
وقد عمل أبو بكر وعمر بهذا النظام في الشورى؛ فقد أشار الصحابة على أبي بكر ببقاء الجيش لمحاربة المرتدين، فلم يأخذ بالشورى وأنفذ بعث أسامة، ثم أشار الصحابة على أبي بكر مهادنة القبائل الانفصالية (المرتدة) وقبول الصلاة وترك الزكاة حتى يعز الله الإسلام بالقوة، فما كان منه إلا أن اتخذ القرار النقيض بشن الحرب على المرتدين. ولم يكن هناك مبرر منطقي في القرارين، وكان أهل الشورى هم الأكثر منطقية. لم يكن هناك مبرر سوى تنفيذ رأيه بغض النظر عن المشورة. كذلك أجمع الصحابة على أن يقود الخليفة عمر جيوش المسلمين لحرب الفرس عدا عبد الرحمن بن عوف الذى أشار ببقاء الخليفة بالمدينة، فأخذ الخليفة برأي عبد الرحمن وحده ورفض الإجماع.
ومن هنا اختلف الفقهاء في شئون بلا قيمة؛ لأن المبدأ نفسه غير ملزم للحاكم، ولا يملك أدوات إلزام ولا تشريع بالإلزام ولا مؤسسات يكون في تمكينها الإلزام؛ وذلك من قبيل تقدير حدود الشورى، وكيفية التزام الحاكم بها، ومن هم أهل الشورى ومن يمثلون، وهل هم أسماء كبيرة بلا مصداقية؟ هل هم رؤساء القبائل وأمراء الجند، أم أهل العلم الديني والفتوى؟ لن ترى في بحثك وراء الشورى سوى عشوائية تامة مما يشير إلى أنها توسع كالورم في أمر لم يكن يقصد كل هذا التوسع؛ لأن الغرض منه لم يكن أكثر من تطييبه لقلوب الصحابة مع عدم إلزامه منذ زمن النبي كما شرح الطبري؛ لتبقى مجرد ورم في تاريخ المسلمين. وقد سمحت هذه الفوضى مؤخرا للشيخ يوسف قرضاوي بتحديد من هم أهل الشورى بالضبط، فقال: «يقول الإمام ابن عطية في تفسيره: إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب» (الإسلام والعلمانية وجها لوجه، مكتبة وهبة، القاهرة، 120). وهو نفسه من سنسمعه بعد قليل وبداخل ذات الكتاب ينكر أن تكون الشورى من قواعد الشريعة أو عزائم الأحكام؛ لأن مساءلة الحاكم كانت كلاما لطيفا من باب حسن النية، ولأن الأمر في الحديث النبوي هو «طاعة ولي الأمر من غير معصية» إعمالا لأمر القرآن، ومع الطاعة لا مكان لشيء اسمه الشورى أو الديمقراطية.
ومبدأ الشورى لم يعن يوما عبر تاريخه أي معنى من معاني حرية الرأي والاختلاف، فهذه مفاهيم لم يعرفها المسلمون؛ لأن الدولة الإسلامية مارست الاستبداد في تماميته استنادا لمبدأ الشورى؛ فالرأي للخليفة وليس للناس؛ يعرض رأيه على المشيرين وقد يأخذ وقد لا يأخذ بقول المشيرين، وحق الشورى قاصر فقط على المسلمين، محجوب عن أهل الذمة، فحق الاختيار مشروط بالإسلام، وهو ما يتنافى بالكلية مع أبسط مبادئ الديمقراطية. كذلك تفتقر الشورى للتقنين وضبط الشكل الذي يمارس به حق إعطاء الرأي في الشورى، فلم يكن حقا انتخابيا بمعنى اليوم، ولم تكن لها مؤسسة سياسية، أو سيادية لضمان تنفيذات رسمية أو قانونية لقرارتها، إضافة إلى أنه لم يكن هناك حتى قانون يوضح مساحة الحقوق والواجبات بين المواطن والحكومة.
وحتي زمن كتابة الماوردي لكتابه «الخراج» لم يكن قد تم نحت اصطلاح واضح لأهل الشورى، حتى نحته الماوردي: «أهل الحل والعقد»، وهو اصطلاح تم تداوله رغم غموضه بدوره؛ فقد اشترط أن يحوز أهل الحل والعقد على 3 شروط هي: (1) العدالة. (2) العلم الديني الذي يستحق صاحبه به الإمامة. (3) الرأي والتدبير المفضي لحسن الاختيار. وهو ما حصر أهل الحل والعقد في رجال الدين؛ لأن رجال الدين هم ببساطة من وضع هذه الشروط. بل وقيل إن هؤلاء هم أولو الأمر المطلوب طاعتهم في الآيات، كما أوضح الفخر الرازي في التفسير الكبير للآية 59 النساء. ومع المنافع والمصالح أضاف رجال الدين، ببعض التساهل، إلى أهل الحل والعقد الأشراف والأعيان؛ أي الأثرياء من المسلمين.
واختلف الفقهاء حول عدد أهل الحل والعقد اللازم لاختيار الإمام بين ثلاثة آراء، آخرها وأحدثها أن يكون من كل بلد واحد، وأقدمها حد أدنى للاتفاق على المرشح بستة أشخاص سيرا على سنة الخليفة عمر عندما رشح ستة للخلافة من بعده، ثم رأي ثالث يصل بأهل الشورى إلى عدد ثلاثة أفراد يتولاه أحدهم بموافقة اثنين، احتجاجا بعقد النكاح الذي يصح بحضور ولي وشاهدين، وبعدها يحكم الخليفة الذي اختاره صديقاه أو شقيقاه مدى الحياة.
ورغم كل هذا التوسع في مسألة الشورى فإنها لا تطابق الديمقراطية لا معنى ولا تاريخا ولا فلسفة ولا أغراضا. بينما ظل أهل الحل والعقد مجرد تبرير للملك العضود عبر التاريخ الإسلامي. وسرعان ما اختفت حكاية أهل الحل والعقد وأصبحت ذكريات باهتة مدونة في كتب يقرؤها المتخصصون وحدهم، مع الجهل الذي ساد بلاد المسلمين بفضل هؤلاء المتخصصين ذاتهم. حتى جاءت الصحوة الإسلامية كصحوة أهل الكهف، فإذا بها تواجه زمنا قد اختلف بالكلية عن زمن السلف، وبيدها عملة لم تعد صالحة لأيامنا. •••
يقف وراء إصرار المتأسلمين على العودة إلى قديمهم طوال الوقت لينبشوا في ركامهم عما يمكن أن يكون بديلا لمنجز الإنسانية منذ فجرها حتى اليوم، آية
صفحة غير معروفة