وهذا حقي بك ناظر المعارف الحالي - وأنعم بهذا الناظر الجديد لهذه النظارة الجليلة - عين سنة 1893 قوميسيرا لمعرض شيكاغو، وكنت ذاهبا إليها لتولي إدارة القسم العثماني فيها. قال لي يوما قبل أن نبرح الأستانة: بلغني من ثريا باشا - وهو يومئذ باشكاتب «المابين» - أنك طلبت رخصة بإصدار مجلة تركية تصدر في شيكاغو أثناء المعرض، وتستجمع وصف معروضاته وجميع نتاج العلم والصناعة والاختراع فيه. قلت: نعم، ولكنني صرفت النظر لما يلوح لي من شدة العناء في هذا العمل الشاق في تلك البلاد النائية، وكثرة ما يقتضي النفقات، وأشد من ذلك علي ما أعلمه من تعنت المراقبة، فهي وإن كانت لا سلطة لها علي في أمركما فلربما أوردت كلمة على غير قصد مما حذف من معجم الكتابة، فالمناقشة بعد رجوعي إلى الأستانة. قال: أنا الضمين لك من هذا القبيل، وإن شئت فأطلعني هناك على الملازم قبل الطبع. وهذا عمل مفيد للبلاد، فلا يجب أن يثبطك شيء عنه، وخصوصا أن فيه سمعة طيبة للعثمانيين في بلاد الأجانب، وأمل وطيد أن «المابين» والحكومة يأخذان من أعداد الجريدة ما يسد النفقات. ولم يزل بي حتى أقنعني، قلت: إذا لا بد لي من الإرادة السنية. قال: لم تسبق عادة بإصدار الإرادات السنية لما يطبع خارج البلاد. قلت: لا بد لي من ذلك ليطمئن قلبي، وإلا فلست بفاعل. فبعد أيام بلغني الإرادة السنية، وهي لا تزال بيدي.
وفي تلك الأثناء قصدت أحد النظار العاملين زائرا، فقال لي أثناء الحديث: أصحيح أنك عازم على إصدار مجلة تركية في أميركا؟ قلت: نعم. قال: أتحررها أنت مع كثرة مشاغلك. قلت: بل لا بد لي من الاعتماد على محرر ماهر. قال: ألا تعرف عبيد الله أفندي؟ قلت: أعرفه بشهرته. قال: هو من أبلغ كتابنا وله رغبة في مثل ما أنت راغب فيه، فاتفق معه، ولكن الرجل من دعاة الحرية والإصلاح، والجواسيس أمامه ومن خلفه؛ فلا يتمكن من الذهاب معك، ولكنه يتيسر له اللحاق بك خلسة. وبعد ذلك جهز لي صديقي أبو الضبا توفيق الحروف التركية وسائر المعدات وأعطاني مرتبا بارعا من عنده يدعى محمد أفندي.
وبعد وصوله شيكاغو وافاني عبيد الله أفندي؛ فحرر المجلة كل مدة المعرض وأودعناها وصف المعرض ومخترعات العصر بالرسوم المتقنة؛ فكانت أول وآخر ما صدر بأميركا من المطبوعات التركية. ولكن رجال «المابين» نبذوها بالقسر عن موازرة حقي بك، والسبب في ذلك أنني لم أصغ إلى نصيحة ناصح قال لي: إذا رغبت في الربح فاجعل ثلاثة أرباع صحيفتك إطراء ب «المابين» فلم أفعل، فعدت بخسارة جسيمة. وبعد عودتنا إلى الأستانة طلب مني جواد باشا الصدر الأعظم نسخا منها، فأرسلتها له وعنونت واحدة منها عنوانا خاصا وكتبت على صدرها:
هذه صحيفتي التي سودتها
بدم الفؤاد وقد شططت مزارا
أعظمت قدر كلمبس فتبعته
بمشقة فيها شققت بحارا
ولقيت ما لاقاه من أهل النهى
فكفى بذا أهل النهى تذكارا
أما عبيد الله أفندي فبقي مدة في أميركا، وكان يعلم قبل سفري أنني ربما أسأل عنه وأوخذ بتهمته. فقال لي: لئن ذهبت معك إلى الأستانة، فإما أن أقتل وإما أن أسجن سجنا يشبه القتل، فأنا باق الآن هنا إلى أن يفتح الله، ولكني أوثر الموت على إصابتك بأذى، فإذا وقعت في مثل هذا المأزق، فبتلغراف واحد منك أطير إليهم ليفعلوا بي ما شاءوا. قلت: معاذ الله أن ألقي بك بين مخالب الموت مهما كانت الحال. فلما بلغت لندن وأنا راجع من أميركا ذهبت إلى السفارة العثمانية، وكان السفير رستم باشا على آخر رمق من الحياة، فما منع ذلك موريل بك المستشار أن يفتح الحديث معي بالسؤال عن عبيد الله وسبب إغفالي أمر إرجاعه معي، وذلك أيضا كان افتتاح الحديث في سفارة باريس.
صفحة غير معروفة