فأي مؤلف في الشرق أو في الغرب يقدم على تأليف كتاب، فيبيضه من أوله إلى آخره، ثم يعرضه على نظارة المعارف، فينتظر كل هذا الزمن. وإذا حسن حظه ونال الرخصة يآلي على نفسه أن لا يغير منه حرفا أثناء الطبع، مع أن المراجعة والتصحيح يقتضيان النظر في التنقيح والتعديل والتبديل حتى بعد ترتيب الحروف قبل الطبع، وأي همة لا ترجع مثبطة أمام تلك الحوائل؟!
أما مواضيع المباحث المباح التأليف فيها، فلم تكن تشمل شيئا من المباحث الأخلاقية والاجتماعية والفلسفية، وكل ما من شأنه أن يعلي الهمم ويثقف العقول وينير البصائر، وهل بعد هذا من قتل لهمم الكتاب؟
ولذلك أصبحت التآليف المفيدة في الولايات من أشباه المعجزات، ولم يكن كتاب الأستانة بأنعم بالا؛ لأن المراقبة كانت محدقة بهم من كل جوانبهم، وبات الجم الغفير من أطول الكتاب يدا يتجاهل وهو عالم ويتصاغر وهو كبير.
وأما الذين اشتد بهم اليأس فلم يطيقوا الصبر، وخف حملهم، فلم يكن في البلاد قيود محكمة تربطهم بها؛ فوكلوا أمرهم إلى الله وغادروا بلادهم، وهم يحنون إليها عن بعد ويتربصون إلى حلول مثل هذا اليوم السعيد ليعاودوا البلاد أفواجا ومعهم من لذة الاختيار وفائدة الاغتراب ما جعل منفاهم مورد نفع لهم ولمواطنيهم في مستقبل الأيام.
وحبذا لو وقف المستبدون فيما مضى عند هذا الحد، وغادرونا نتمتع بقراءة الكتب التي ألفت قبل استئثارهم بالأمر؛ فإنهم بعد أن سدوا السبل في وجه الجديد المفيد، وأوصدوا الأبواب في وجه الكثير من مؤلفات الأجانب أخذوا يتعقبون آثار كل قديم فيه نفحة من نفحات الحرية. ولقد طالما كان الوشاة يتخذونها وسيلة لنيل ما لم يستطيعوا إليه سبيلا بطرق البذل والاسترحام، كما فعل ذلك البائس الذي نفدت حيله فعجز عن الحصول على وظيفة؛ فأرسل تلغرافا إلى «المابين» ينبئ أن لديه أمورا ذات شأن يبلغهم إياها، ففتحت له الأبواب فدخل ومعه بعض أجزاء منتخبات الجوائب، فأشار إلى بعض مظان فيها؛ فكوفئ وعين قائمقاما وصدرت الأوامر في الحال بمصادرة جميع أجزاء تلك المنتخبات فهجم الرقباء على المكاتب هجوم الشرطة على اللصوص، فبعثروا كتبهم وجمعوا كل ما لديهم من ذلك الكتاب.
وكم من مؤلف قرئ دهرا بلا حرج، ثم صودر وحظر النظر إليه لكلمة أو عبارة وردت فيه. وكم من مكتبة زج صاحبها في ظلمات السجن لشبهة تلوث بها لبيع كتاب أو لذكر اسم ذلك الكتاب في حديث أو رسالة وجهت إليه من صديق، وهذه سجون الأستانة ودمشق الشام وغيرهما لا تزال تتقطر لهفا على أولئك الأبرياء.
وما عسى أن نقول عن حالة المكاتب الخاصة؛ إذ كانت المنازل تفاجأ على غرة من أصحابها، وتفتح خزائن الكتب، وإن كان بعضها مدخرا من عهد الآباء والأجداد، ويتذرع الوشاة ولو بصفحة من كتاب مؤلف منذ قرون لأخذ صاحبه غيلة. وإن حملة واحدة حملها الوشاة منذ سنتين على بعض وجهاء القوم في طرابلس وبيروت وصيدا؛ أسفرت عن سجن جماعة من خيرة العلماء وطلبة العلم وإحراق الألوف من الكتب النفيسة حتى ساد الرعب بين طلاب الكتب، فكانوا يتلفون بأيديهم تلك النفائس التي جمعت بشق الأنفس حتى قدر ما أتلف بأيدي أصحابه بيوم واحد بما يقرب من خمسين ألف مجلد، وكانت النيران تلتهم الكتب التهامها يوم دخلت جنود هلاكو بغداد.
ومع هذا فإن للمطبوعات قانونا، حبذا لو عمل ببعضه، حتى لقد كان للكتاب مكافآت مرتبة على ثلاث درجات قبل هذه الفترة. وإننا لا نزال نذكر المكافآت التي نالها المؤلفون في تلك الأيام، خلا ما كان يجود به كرام السلاطين على الكتاب والمؤلفين.
وأما الشعر، وهو نشوة الرءوس وصناجة النفوس، فقد قضي عليه القضاء المبرم، إلا ما كان ينفخ منه في نفير التدجيل وبوق التبجيل حتى لقد خيل لجهلة القوم أن تلك الجذوة التي بدأ شبوبها في زمن السلطان عبد المجيد ثم التهبت أيام السلطان عبد العزيز، قد انطفأ نارها وخبأ إوارها، وما علموا أنها لبثت وميضا تحت رماد منتشر على هشيم إذا لعبت به نسمة حرية انكشف الرماد فثارت النيران ثوران البركان.
ومن أراد أن يعلم ما كان من آثار الحرية السابقة؛ فليرجع إلى الروايات التي كانت تمثل بالفرنسية والتركية في دور التمثيل بالأستانة، وقد ضربت فيها للسلطان عبد العزيز قبب خاصة. بل فليرجع إلى حماسيات كمال زعيم النهضة الشعرية، وإذا أردت مثالا أنصع؛ فاقرأ متنا وشرحا وشعرا ونثرا ظفرنامه يوسف ضيا باشا، وقد انتقد فيها بأشد من قذف النبال سياسة الدولة في بعض الشئون، ووصف بعض صدورها ووزرائها تحت ذقونهم بما لو نطق بحرف من مثله في الحكومة الغابرة لزج به إلى أعماق البوسفور.
صفحة غير معروفة