استبداد تقتسم فيه فئة ضئيلة أموال الأمة فتتنعم بها وتشقى الأمة. ولا حرج على تلك الفئة ولا جناح، تستولي على موارد ثروة البلاد من حرث وغاب ومنجم، وتستلب الامتيازات كأنما كل ذلك من تراث آبائها وأجدادها، إذا اكتشف مجتهد منجما وقال للحكومة: أنا صاحب الحق باستخراجه، فلكم سهمكم ولي سهمي بمقتضى النظام. قال رجال «المابين»: بل هو هبة استوهبها أحدنا فاذهب خاسرا. وإذا قضى باحث زمنا فدرس مشروعا وقال: هذا نتاج بحث طويل ولدي جميع الوسائل العلمية والمالية للقيام به بهذه الشروط، وذلك السهم منه للحكومة. قالوا: بل هو لنا. فأخذوه بلا شرط ولا بدل.
تلك هي الفئة الظالمة التي كانت تتسبب بالنفي والسجن والقتل، فتفتك بمن شاءت كما شاءت فرادى وعشرات ومئات وألوفا، ولا يشق شغاف قلبها الصلد عويل أيم ولا صراخ يتيم، وتحول بين الراعي ورعيته وبيدها سيف من النقمة مسلول حتى على رءوس أفرادها.
ذلك هو الاستبداد الذي نقصده في بحثنا، وهو الذي أحرج صدور العثمانيين؛ فسهل لهم المنية في سبيل الحرية، حتى إذا نالوها بجهاد جيشهم الباسل ودعاتهم الأماثل تصاعد صدى حماسهم فخرق لب الأثير.
الدستور والحرية
يقول أرباب السياسة: لا يسوغ إطلاق الحرية دفعة واحدة لأمة طال عليها عهد الاستعباد؛ لئلا تستحكم الفوضى وينتهي الأمر باستبداد الجماعات، وهو أشد بلاء من استبداد الرجل الفرد. ولكن هذا القول مع ما فيه من الصواب لا ينطبق على الأمة العثمانية؛ فإنها ليست بالأمة التي رسفت دهرا بقيد الرق، بل كانت منذ تألفت تحت لواء السلطان عثمان الغازي أمما فاتحة تحت زعامة العنصر التركي، وشعوبا مكافحة ذودا عن حياضها؛ وإن جميع العناصر التي انضمت تحت لوائها كانت من ذوات الماضي المجيد، وإن كثيرين من سلاطينها كانوا ذوي بر برعايتهم. وهذا السلطان محمد الفاتح مع ما يعزى إليه من القسوة، قد خول رعاياه المسيحيين والإسرائيليين من حرية الدين والتصرف بالأحوال الشخصية ما يسجل له فخارا مؤبدا، وإن عده كثيرون خرقا في السياسة بالنظر إلى أحوال ذلك الزمان. ثم إن كثيرا من تلك الشعوب والقبائل حفظ استقلاله الإداري الداخلي أزمانا طوالا، أو تمتع بامتيازات ممنوحة أو مسموح بها حتى هذا اليوم، كالكرد والعرب المقيمين في أطراف الولايات واللبنانيين والنساطرة.
ثم إذا نظرت إلى طبيعة البلاد رأيت أن معظمها لا يصلح للاستعباد؛ فسكان الجبال قساة عتاة معتزون بمعتصمهم، فلا يصلحون عبيدا مهما طال بهم أمر الخضوع والخنوع. وقل مثل ذلك في سكان البوادي والقفار؛ فهم أشد الناس تشبثا بالحرية يفتدونها بأموالهم وأرواحهم، وأما سكان الثغور والحواضر فقد فاض على معظمهم نور العلم والتهذيب، وعرفوا، بما شاهدوا وقرءوا وخالطوا من الأجانب، أن ذلك الكنز الثمين، بل تلك الجوهرة الفرد أعلى قيمة من كل ما خلق الله؛ فالرق لا يصلح إلا للخامل الجاهل، وهما تربان لم يجتمعا في عنصر من عناصر العثمانيين. وأضف إلى هذا سياسة التفريق؛ فإنها على شؤمها كانت لها مزية حفظ نشاط هذه الأمم المتباغضة في الأمس المتحابة اليوم. فباد العنصر الذليل أو اندمج في غيره، ولم يبق غير النشيط الصالح للذود عن حوض نفسه ولو إلى حين. فكلهم الآن طالب حرية وعالم بحقه. وكل طالب حرية وعالم بحقه نشط من عقاله فهو أهل لها، حتى ولو طال عليه زمن الجور والتعسف، ومن ذا الذي يزعم اليوم أنه لو أتيح للبولونيين مثلا أن يؤلفوا دولة منهم لا يتسنى لهم ذلك مع ما برح بهم من المحن المتواليات ورزايا التقسيم.
ثم إن هذه الجرثومة الزكية ليست بنت يومها ، ولكنها متأصلة في نفوس جميع شبانهم وكهولهم وكثيرين من شيوخهم، حتى مخدراتهم اللائي كن ينحن أمس سرا وبرزن اليوم جهرا بعد إعلان الدستور يحملن أعلام الفوز المبين.
ولقد طالما حن العثمانيون إلى الدستور وترنموا بذكره قبل الآن، وإن شدة الضغط التي ألجأتهم إلى الصمت في الفترة الغابرة إنما كان زمنها زمن جثوم لوثوب، وليس زمن استكانة لاستماتة. وإذا اجتزأنا من التاريخ ببضعة عقود من السنين اتضح أنه منذ أصدر السلطان عبد الحميد الخط الهمايوني المعروف بخط كلخانه، ما زال الشعب العثماني يتحفز لمثل هذه الوثبة الخطيرة. ولقد خطا في هذا السبيل معظم خطواته حتى كاد يستتب له الأمر بنفوذ مدحت وحسين عوني ورشدي، وإذا بجيش الجواسيس قد دهمه قبل أن تنضج ثمرة غرسه، واقتلع تلك الشجرة فتناول مريدوهم بذورها فغرست ونمت أشجارا.
انظر الآن إلى ما شئت من أسباب الشكوى، وارجع معي إلى ما قبل أربعين أو ثلاثين، بل خمسة وعشرين أو عشرين عاما، وقابل زمنا بزمن؛ تر أننا جرينا القهقرى جريا حثيثا، وخالفنا بالقسر عنا كل أمم الأرض.
الحرية الشخصية
صفحة غير معروفة