54

121

الحجة التي يستند إليها القائلون بمعجزات المسيح التي أيد بها صدق رسالته هي شهادة أتباعه الذين قالوا إنهم رأوا بأعينهم تلك المعجزات تحدث أمام أبصارهم؛ وإذن فالأساس الذي نقيم عليه صدق الديانة المسيحية أوهى من الأساس الذي نقيم عليه صدق ما تدلنا على صدقه حواسنا نحن، ذلك لأن من يقوم بالرؤية أقرب إلى الصدق ممن تروى له رؤية سواه؛ فأتباع المسيح قد رأوا شيئا ثم رووه، ثم أخذ الرواة على مر السنين يروي بعضهم لبعض حتى انتهت إلينا نحن شهادة الشهود الأولين، فهي شهادة رؤية فعل فيها الزمن فعله، ولذلك فهي أضعف من شهادة حواسنا نحن إذا ما شهدنا بها شيئا؛ ولما كانت الحجة الأضعف لا ترجح الحجة الأقوى، كان حتما علينا ألا نصدق شهادة حس نقلت إلينا عن سوانا من زمن قديم إذا تعارضت مع شهادة حسنا نحن في لحظتنا الراهنة.

ولئن كانت خبراتنا الحسية هي مرشدنا الوحيد فيما نعلمه عن أمور الواقع فلا بد - مع ذلك - من الاعتراف بأنها مرشد غير معصوم من الخطأ؛ فقد يكون الإنسان (في إنجلترا) على حق إذا توقع أن يكون الجو في أي يوم من أيام يونيو أحسن منه في أي يوم من أيام ديسمبر، لأن خبرته قد دلت على ذلك في سنيه الماضية، لكن ذلك لا يعني استحالة أن يقع في الخطأ حينا، فيجد يوما من شهر ديسمبر أحسن جوا من يوم في شهر يونيو؛ ومع ذلك فلا يكون هذا الخطأ مدعاة إلى نبذ الخبرة والاهتداء بها؛ لأن الخبرة نفسها هي التي تدله كذلك أن أمثال هذا الشذوذ في اطراد الحوادث قد يقع؛ فمن الخبرة بالحوادث يتعلم الإنسان أن ليست الأحكام كلها سواء في درجة اليقين، فمنها ما يرجح صدقه ومنها ما يقل فيه الترجيح وهكذا.

فلا يسع العاقل - إذن - سوى أن ينسب درجة الصدق في اعتقاداته إلى درجة الشواهد التي تدعمها؛ فحينا يقطع بأن شيئا معينا سيقع في ظروف معينة لأنه قد وقع في مثل هذه الظروف بلا تخلف، وحينا آخر يتوقع وقوعه في شيء من الحذر، لأن وقوعه لم يطرد إلا بدرجة محدودة؛ وإذا ما احتمل الموقف حكمين متضادين، كان عليه أن يزن الشواهد في كل من الجانبين ليأخذ بأرجحهما أخذا فيه من الشك والتردد بمقدار ما في الرجحان من كثرة أو قلة؛ فوقوع حدث معين مائة مرة فيما مضى، ووقوع ضده خمسين مرة، يجعل الحدث الأول أكثر رجحانا في توقع حدوثه بالنسبة إلى حدوث ضده بمقدار الضعف وهكذا.

ولما كان لا غنى للناس في حياتهم اليومية عن الأخذ بشهادة الآخرين، كان حتما عليهم أن يقيسوا نسبة الصدق في تلك الشهادة بنسبة ما قد عرف عن أصحابها من التزام الصدق فيما يقولون، نعم قد يقال إن من صدق غالبا فيما مضى قد لا يصدق الآن، ولكننا في هذه الحالة شأننا في كل حالة أخرى نحكم فيها على أمر من أمور الواقع، لا يسعنا أن نحكم إلا على أساس الاطراد في الوقوع، فما قد اطرد وقوعه على تتابع معين فيما مضى، نتوقع أن يحدث على نفس التتابع فيما هو آت، على الرغم من جواز ألا يقع في المستقبل ما قد وقع في الماضي؛ وعلى هذا الغرار نحكم على من ثبت صدقه فيما مضى بأنه على الأرجح صادق فيما يقول الآن أيضا، والعكس صحيح كذلك، وهو ألا نثق بالقول إذا صدر عن رجل عرف عنه الكذب في حياته الماضية.

وموازنة الشواهد في الموقف الذي نكون بصدد الحكم عليه، شيء مألوف لنا، فترانا نزن شواهد الإثبات وشواهد النفي ليتاح لنا الحكم الذي نطمئن إلى صوابه، فلو اتفق رواة التاريخ - مثلا - على حادثة معينة كان الصواب أرجح، وأما إذا اختلفوا بحيث أثبت فريق منهم شيئا نفاه الآخرون، كان علينا أن نوازن بين الكفتين من حيث أمانة الرواة في كل من الجانبين؛ لكن افرض أن الرواة قد أجمعوا على وقوع شيء قلما يقع له نظير في خبراتنا نحن؛ فها هنا ترى الموازنة بين خبرتنا الحسية من ناحية وخبرة غيرنا من ناحية أخرى، ولما كانت خبرتنا الحسية الخاصة المباشرة أقوى شاهدا من خبرة حسية لغيرنا يرويها لنا، فلا بد لنا في مثل هذه الحالة أن نرفض خبرة غيرنا إذا ما تعارضت مع خبرتنا نحن المباشرة.

وننتقل الآن بحديثنا إلى المعجزات التي يرويها لنا الرواة عن شهود أقدمين؛ فنقول إن المعجزة هي خروج على قوانين الطبيعة؛ ولما كانت هذه القوانين قد أثبتتها لنا خبرات مطردة، كنا أمام المعجزة المروية لنا إزاء احتمالين: فإما أن نصدق حكما دلت عليه خبراتنا باطراد لم نشهد له استثناء، وإما أن نصدق خبرات غيرنا من السلف نقلها لنا الرواة على مر الزمن؛ وها هنا لا مناص من الأخذ بالبديل الأول دون البديل الثاني، ما دمنا قد سلمنا بأن الخبرة هي أساس الأحكام كلها؛ فلماذا نوشك على اليقين إذ نحكم بأن الموت لاحق بكل حي، وبأن الرصاص لا يظل عالقا في الهواء، وبأن النار تأكل الخشب وتنطفئ بالماء؟ لماذا نحكم هذه الأحكام كلها؟ أليس ذلك لاتفاقها مع قوانين الطبيعة التي شهدت بصدقها الخبرة المطردة، وأن «المعجزة» هي أن تنكسر هذه القوانين ويقف اطرادها؟ إن ما يجري وفق مجرى الطبيعة المألوف لا يقال عنه إنه «معجزة»؛ فليس «معجزة» أن يموت فجأة إنسان تظهر عليه الصحة وسلامة البدن، على الرغم من أن مثل هذا الموت نادر الوقوع بالنسبة لحالات الموت الأخرى، لكنه مع ذلك مما قد ألفنا وقوعه حينا بعد حين؛ ولذلك لا نعد وقوعه من «المعجزات»، لكننا نعد من «المعجزات» أن يرتد ميت إلى الحياة من جديد لأن مثل ذلك الحدث لم يقع في مشاهداتنا أبدا، فلم يشهده إنسان في أي عصر وفي أي بلد؛ وعلى ذلك فالواقعة لا تسمى «معجزة» إلا إذا خرجت عن مألوف خبراتنا المطردة، ولكن لما كانت خبراتنا المألوفة المطردة هي نفسها البرهان على احتمال وقوع حادثة ما؛ كانت بالتالي هي نفسها البرهان على عدم احتمال وقوع ما يتنافى معها، أو بعبارة أخرى هي البرهان على عدم احتمال وقوع ما يسمونه بالمعجزة، ولا يمكن إقامة البرهان على إمكان وقوع «المعجزة» إلا ببرهان أقوى ترجيحا من برهان الخبرة المطردة الدالة على نقيض تلك المعجزة.

122

ونستدل من هذا الذي أسلفناه أن البرهان الذي نسوقه تعزيزا وتأييدا لمعجزة ما لا يكفي أن يكون برهانا إلا إذا كان بطلانه أشد إعجازا من المعجزة نفسها التي نقيم عليها هذا البرهان؛ فإن قال لي قائل إنه شهد بعينيه ميتا يرتد إلى الحياة، سألت نفسي قائلا: أيهما أقرب إلى احتمال الوقوع: أن يكون هذا الرائي قد خدع أو انخدع، أم أن تكون قد وقعت هذه الواقعة التي يرويها، والتي تخرج عن مألوف ما قد شهده الناس جميعا في كل زمان وكل مكان من أن الموتى لا يرتدون إلى الحياة؟ إنني خليق ها هنا أن أوازن بين هاتين المعجزتين أيهما أكثر إعجازا؛ معجزة أن يكون الرائي خادعا أو مخدوعا، ومعجزة أن يكون الميت قد ارتد إلى الحياة، وأيهما يبدو لي أكثر إعجازا يكون عندي أبعد عن القبول والتصديق؛ فلأن يكون الميت قد ارتد إلى الحياة أبعد عن القبول والتصديق من أن يكون الرائي الذي يروي هذه الواقعة قد خدعته عيناه فيما رأى أو قد أراد أن يخدع غيره بما لم ير.

123

صفحة غير معروفة