52

وفضلا عن ذلك كله، فلو كانت الأجيال تتعاقب كما يتعاقب دود القز والفراش، أنه لو كان معنى تعاقبها هو أن تنمحي جماعة لتحل محلها جماعة جديدة، لجاز أن نقول إن من حق هذه الجماعة الجديدة أن توافق أو لا توافق على نظام الحكم الذي كان سائدا في الجماعة القديمة، لكن الأجيال يتداخل بعضها في بعض، ففي كل ساعة يضاف إلى الجماعة عضو جديد ويخرج منها عضو قديم، ويستحيل أن يتحقق استقرار للحياة على هذه الصورة إلا إذا سار الوافدون الجدد على الدرب الذي سار عليه الأسلاف، وأما ضروب الإصلاح - ولا بد منها - فيتحتم أن تجيء عن طريق الهداية البصيرة والإقناع، ولا تجيء أبدا عن طريق العنف والقوة.

وبعد أن يسوق هيوم أمثلة من التاريخ ليدلل بها على صدق ما يذهب إليه، يعود إلى تفنيد فكرة «العقد الابتدائي» على أساس نظري فلسفي فيقول إن الوجبات «الخلقية» كلها يمكن تقسيمها نوعين: النوع الأول قوامه واجبات تدفع إليها غرائز فطرية وميول طبيعية مباشرة، فترانا نؤديها بغض النظر عن أي إلزام أو نفع يترتب على أدائها، ومن قبيل ذلك حب الوالدين للأبناء، والاعتراف بالجميل لصاحب الفضل، والإشفاق على من ألمت به ملمة؛ نعم إن أمثال هذه المشاعر تصادف عند المجتمع استحسانا ورضى، لكننا نندفع إليها بمحض الفطرة بغض النظر عن هذا الاستحسان والرضى.

وأما النوع الثاني من الواجبات الخلقية فلا يستند إلى غريزة أو فطرة، لكنها تؤدى بدافع من الإلزام الذي تقتضيه ضرورات الحياة الاجتماعية التي لا قيام لها ولا نجاح بغير تلك الواجبات؛ ومن هذا القبيل «العدالة» أو عدم الاعتداء على ملك الآخرين، و«الوفاء بالعهد»؛ فهذه وأمثالها فضائل نلتزم بها صيانة للمجتمع على الرغم من أنها ليست جزءا من الفطرة؛ إذ من الواضح أن كل إنسان يحب نفسه أكثر مما يحب أي شخص آخر، ولذلك فهو بفطرته مدفوع إلى الإكثار من مقتنياته بقدر المستطاع، ولا يحد من ميله هذا إلا التفكير والخبرة اللذان يهديانه إلى النتائج السيئة التي تترتب على سلوكه ذاك، وبهذا تراه يفرض القيود على دوافعه الفطرية الغريزية.

و«الولاء» الذي هو واجب سياسي أو مدني، هو من هذا النوع الثاني من الواجبات الخلقية التي تستدعيها الخبرة ولا تحتمها الفطرة؛ لأننا لو استمعنا إلى إملاء الغرائز الفطرية وحدها، لاستبحنا لأنفسنا حرية بغير قيد أو حد، ولالتمسنا السيادة على الآخرين؛ لكنه التفكير العقلي هو الذي يقتضينا أن نضحي بهذا الذي تميله علينا العواطف الفطرية، لكي نحقق للمجتمع أمنا ونظاما؛ وإنه لتكفينا الخبرة القليلة لنعلم ألا قيام لمجتمع بغير قضاة يردون المعتدي، ولا خير في قضاة لا يجدون من الناس طاعة لقضائهم، ومن ثم وجب على الفرد في المجتمع «الولاء» لحكومته وما تقرره عليه من قيود.

من ذلك ترى أن «الولاء» السياسي و«الوفاء بالعهد» كليهما من الواجبات المكتسبة لا الواجبات الفطرية؛ وإذن فليس من الصواب أن نجعل الولاء السياسي نتيجة مترتبة على الوفاء بالعهد، كما يظن أصحاب نظرية «التعاقد»؛ إذ يقولون إننا نطيع الحاكم بناء على عهد قطعناه ضمنا على أنفسنا إذ قبلنا قيام ذلك الحاكم فينا وليا على أمورنا؛ لأننا نستطيع أن نسألهم قائلين: وما الذي يلزمنا بالوفاء بعهودنا؟ إنه ليس من غرائزنا الفطرية أن نفي بالعهد، فما مصدر الإلزام هنا إذن؟ فإذا أجابوا بقولهم: إنه المجتمع وضرورة قيامه هو الذي يفرض علينا الوفاء بالعهد، كان اعتراضنا عندئذ هو أن هذا المجتمع نفسه وضرورة قيامه هو الذي يستوجب كذلك الولاء السياسي، وإذن فهذا الولاء إنما يقف في نفس المنزلة التي يقف فيها الوفاء بالعهد، ولا ضرورة هناك تحتم علينا أن نجعل الولاء فرعا عن الوفاء ونتيجة مترتبة عليه؛ إن المجتمع ومصالحه هي التي تفرض الواجبين معا.

فلو سأل سائل: لماذا وجبت الطاعة على الشعب لحكومته؟ أجاب هيوم بقوله: لأنه لا بقاء للمجتمع بغير هذه الطاعة ، أما معارضو هيوم فيجيبون بقولهم: لأن أفراد الشعب قد تعهدوا بهذه الطاعة فوجب عليهم الوفاء بما تعهدوا، ومن رأي هيوم أن هذه الإجابة ناقصة؛ لأننا نستطيع أن نسأل القائلين بها سؤالا يتعذر عليهم جوابه، وهو: ولماذا يجب الوفاء بالعهود؟ من الذي أوجب ذلك؟ كلا، إنه لا عهود هناك ولا وعود، أو بعبارة أخرى، لا تعاقد هناك بين حاكم ومحكوم؛ إنما للولاء واجب للحكومة على الشعب ليظل النظام الاجتماعي قائما.

لكن السؤال المشكل العسير حقا هو هذا: لمن يجب الولاء؟ أو بعبارة أخرى، من ذا يكون سلطاننا الشرعي؟ ولعل أيسر إجابة على هذا السؤال تتحقق حين يجد الشعب سعادته في الاعتراف بحكومته القائمة وفي سلطانه الراهن، على اعتبار أنه الوريث الشرعي لآبائه وأجداده ... إن الشعب إذا ما وجد سعادته في هذا الاعتراف، كان من العسير على المعترض أن ينبهه إلى ما في هذه الإجابة من مشكلات؛ ذلك لأن مثل هذا المعترض يستطيع أن يعود بالسلطان الراهن راجعا إلى الوراء خطوة بعد خطوة حتى يتبين أن جده الأول كان مغتصبا لعرش لم يكن له فيه حق موروث ... وها هنا يشير هيوم إلى حقيقة عامة، وهي أنه وإن تكن الفضيلة تقتضي ألا يعتدي أحد على ملك سواه، إلا أنك إذا ما تتبعت ما شئت من أملاك الناس، كيف تداولته الأيدي مالكا بعد مالك، فلا بد أن تنتهي عند خطوة كان هذا الملك فيها نتيجة نهب وسرقة واعتداء؛ ولا فرق في هذا بين الملكية الخاصة والملكية العامة، أي بين أن يملك مالك قطعة من الأرض مثلا وبين أن يملك أمير قطرا من الأقطار بما فيه ومن فيه.

إن «وضع يد» المالك على ما يملك - في الحياة الخاصة وفي الحياة العامة على السواء - برهان قوي في أعين الناس على مشروعية ذلك الملك، مهما يكن الأصل القديم الذي عنه تفرعت هذه الملكية في اللحظة الحاضرة ... هذا هو الرأي العام الشائع بين الناس، ويستحيل علينا أن نغمض أعيننا عن الرأي العام في أمثال هذه المشكلات؛ فلئن كان رأي الناس عامة لا يصلح حكما في المسائل العلمية النظرية، فلا شك أنه صالح في المسائل العملية كالأخلاق والنقد، بل إنه لا رأي في أمثال هذه المسائل العملية إلا رأي عامة الناس؛ وإذا أردت أن تدحض مذهبا في الأخلاق أو السياسة - مثلا - فلن تجد لرفضه برهانا أقوى من أن الذوق لا يستسيغه ولا يستسيغ النتائج التي تترتب عليه؛ وعلى هذا الأساس نرفض النظرية السياسية القائلة بأن مشروعية الحكومة قائمة على تعاقد تم بين أفراد الشعب عند أول قيام تلك الحكومة فيهم؛ نرفض هذا المذهب السياسي لأنه مجاف لما تعتقده عامة الناس في كل العصور وفي كل الأمم.

118 (11) في الدين (11-1) الديانة الطبيعية

يعرض هيوم رأيه في الدين في مؤلفين رئيسيين، أحدهما هو «التاريخ الطبيعي للدين» والآخر «محاورات في الديانة الطبيعية» والمقصود بكلمة «طبيعي» هنا هو نشأة العقيدة الدينية من أصول في طبيعة الإنسان وفطرته، مفرقا في ذلك بين هذا الرأي الذي يرد الدين إلى طبيعة الإنسان، وبين الرأي الآخر الذي يرده إلى التأمل العقلي من جهة، والرأي الثالث الذي يرده إلى الوحي والتقليد من جهة أخرى؛ فالقائل بأن الدين نابت من طبيعة الإنسان لا يحتاج في تدعيمه إلى البرهان العقلي ولا إلى وحي هبط إلى الإنسان من خارج طبيعته.

صفحة غير معروفة