49

113

ولكن ما تلك الدوافع التي تحفز الإنسان على العمل الخلقي؟ هي العواطف التي تثيرها في نفس الإنسان ظروف الموقف الذي يكون محيطا به؛ ولقد أسلفنا لك القول عن تحليل «العاطفة» عند هيوم (انظر الفصل السابق في هذا الكتاب) بأن الأمر فيها ذو طرفين، فطرف يبدأ من الموضوع الذي يثيرها، وطرف ينتهي إلى النفس التي تنصب عليها العاطفة، سواء كانت هذه النفس نفس صاحب العاطفة (كما في حالتي الزهو والضعة) أو نفس شخص آخر (كما في حالتي الحب والكراهية)؛ وأما الموضوع الذي يثير العاطفة فيتألف دائما من عدة عناصر، أحدها لا بد أن يكون عنصر اللذة أو الألم، أو إن شئت فقل إنه عنصر الارتياح أو القلق؛ أي إنه لا عاطفة - مهما يكن نوعها - ما لم يكن الارتياح أو القلق أحد مقومات الموضوع الذي يثيرها؛ ولما كان الحافز على العمل هو دائما «عاطفة» ما، إذن فلا عمل إلا إذا كان في الموقف الحافز عليه شعور بالارتياح أو شعور بالقلق، أي شعور باللذة أو شعور بالألم؛ وهكذا تكون الفضيلة عملا مبطنا بالشعور الأول، والرذيلة عملا مبطنا بالشعور الثاني؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن نعد هيوم في الفلسفة الأخلاقية نصيرا للمذهب اللذي النفسي، الذي يجعل معيار التفرقة بين ما هو فضيلة وما هو رذيلة من الأفعال، ما يصحبه من شعور بالرضى أو شعور بالسخط عند الإنسان.

الحافز على العمل الخلقي - إذن - هو في نهاية التحليل الشعور باللذة أو الألم؛ والغاية منه هو إحداث الشعور باللذة أو التخلص من الشعور بالألم، سواء كان الأمر في ذلك متعلقا بالقائم بالعمل نفسه أو بغيره من أفراد الإنسان؛ حتى إذا ما تم الفعل وتأمله الإنسان بفكره، أحس إحساسا مباشرا بالرضى أو بالسخط، وهو الإحساس الذي قلنا عنه إنه من قبيل الانطباعات الحسية المباشرة، تنطبع به حاسة خاصة هي الحاسة الخلقية.

ها هنا نقطة دقيقة لو أفلتت منا أفلت معها الفهم الصحيح لمذهب هيوم في الأخلاق؛ وهي التفرقة بين مذهبه ومذهب اللذيين الذين يجعلون هدف الأفعال الخلقية كلها هو إحداث اللذة والتخلص من الألم، وعندهم أن اللذة المستحدثة هي نفسها «الخير» والألم المنجو منه هو نفسه «الشر»؛ فاللذة عندهم هي «الخير»، أي إن هاتين اللفظتين مترادفتان، فالفعل الذي تصفه بأنه لذيذ تصفه في الوقت نفسه بأنه خير؛ وبمقدار ما يزيد الفعل قدرة على استحداث اللذة يزيد جانب الخير منه؛ أما نظرية هيوم فتتفق مع المذهب اللذي في أن الإنسان تحفزه اللذة ويهدف إلى اللذة، بل تتفق في أن اللذة المستحدثة هي نفسها خير في ذاتها؛ لكنها تختلف عن المذهب اللذي في أنها تفرق ها هنا بين اللذة «النفسية» التي تحدث عن تحقيق إحدى الرغبات الطبيعية الفطرية، وبين لذة أخرى يهملها المذهب اللذي ويضيفها هيوم ويجعلها محورا أساسيا جوهريا في نظريته، وهي الشعور بالرضى الذي يحدث عند تأمل الإنسان لما قد فعل، فهذا الشعور هو «الخير الخلقي» بأدق معناه؛ وبهذا نفرق بين الخير النفسي والخير الخلقي، يقتصر اللذيون على النوع الأول، ويعترف هيوم بالنوعين معا.

ومثل هذه التفرقة نفسها يقوم بين المذهب المنفعي في الأخلاق، ومذهب هيوم، فأنصار «المنفعة» يقولون إن الفضيلة هي الفعل الذي يحقق أكبر نفع ممكن، لكن كلمة «النفع» نفسها لا يكون لها معنى إلا بما يحققه ذلك النفع، فأي شيء هذا الذي إذا ما تحقق قلنا إن ثمة نفعا قد تحقق، وبالتالي حكمنا على الفعل الذي حققه بأنه فعل فاضل؟ ها هنا تعود فكرة اللذة من جديد، فالنافع هو الذي يحقق اللذة أو المتعة أو الطمأنينة والرضى؛ هكذا يقول «المنفعيون»، وبهذا نفسه يقول هيوم، لكنه لا يكتفي به، بل يضيف إليه خطوة أخرى، هي الاتجاه نفسه الذي يميل بإنسان معين أن يعمل ما فيه نفع، أي ما يستتبع لذة ومتعة؛ بعبارة أخرى؛ هنالك جانبان متميز أحدهما من الآخر، الجانب الأول هو المنافع نفسها التي تتحقق، والجانب الثاني هو النشوة لأي منفعة تتحقق بغض النظر عن نوعها؛ والجانب الأول هو ما يقتصر عليه المذهب المنفعي في الأخلاق، وإضافة الجانب الثاني هي ما يميز مذهب هيوم.

114

الأشياء النافعة والمؤدية إلى شعور بالمتعة كثيرة، لكنها قد تكون مرضية من الناحية الخلقية وقد لا تكون؛ نعم إنه لا بد لجانب المنفعة والمتعة أن يتحقق فيما نحكم عليه بالامتياز الخلقي، لكن ذلك الجانب وحده لا يكفي، بل ينبغي أن يضاف إليه هذا النوع من الإحساس المباشر بالرضى الذي حدثناك عنه بأنه كأي إدراك حسي آخر، تنطبع به النفس انطباعا مباشرا؛ لكن ما الذي يهدينا في الموقف الذي نكون إزاءه أن الأمر منته إلى منفعة، وبالتالي يكون جديرا بالاستحسان الخلقي؟ الذي يهدينا إلى ذلك هو «العقل»، وهنا تتضح مهمة «العقل» في الأخلاق، فليس العقل هو الذي يقضي على فعل معين بأنه فضيلة؛ ليس العقل هو مصدر الأخلاق، ليس العقل هو الذي يحمل الإنسان على فعل شيء وترك آخر؛ بل مهمة العقل في هذا الصدد مقتصرة على تحليل عناصر الموقف الذي نحن إزاءه في لحظة معينة؛ ومن تحليله هذا نعلم أنه موقف قد ينتهي بنا إلى نفع. إلى هنا لا «أخلاق» في الأمر، ولكن بعدئذ تأتي «العاطفة» بما تثيره فينا من شعور بالرضى أو بالسخط، باللذة أو بالألم، بالطمأنينة أو بالقلق، وعلى أساس هذا الشعور العاطفي نتحرك نحو الفعل أو ننفر منه؛ وبهذا تكون العاطفة - لا العقل - هي المصدر الحقيقي للأخلاق، وإن تكن مهتدية في سيرها بما يقدمه لها العقل من تحليل وتوضيح.

115 (10) في السياسة

أراد ديفد هيوم أن يكون في نظريته السياسية محايدا كما ينبغي للفيلسوف أن يكون، فلا يتأثر في الرأي بصالح هذا الحزب السياسي أو ذاك؛ لكن نظريته السياسية قد جاءت - عن قصد أو عن غير قصد - مسايرة لاتجاه الحزب الذي كان الفيلسوف يناصره، وأعني به حزب المحافظين، ومناهضة للحزب الآخر الذي كان يقف منه موقف المقاومة، وهو حزب الأحرار؛ فلقد كان مما يخدم حزب الأحرار أن يقال في النظرية السياسية إن الحكومة قد نشأت بين الناس أول ما نشأت بتعاقد بين الأفراد، فالأفراد هم الذين أرادوا لأنفسهم نوع الحكومة التي تشرف على مصالحهم المشتركة، وما دام الأمر كذلك، فلهؤلاء الأفراد أنفسهم حق الثورة على الحكومة إذا لم تقم بواجبها إزاءهم؛ أقول إن حزب الأحرار كان يستند إلى مثل هذه النظرية السياسية في تقريره لحقوق الأفراد الطبيعية في إقامة الحاكم أو عزله، ولما كان «هيوم» أميل إلى حزب المحافظين منه إلى حزب الأحرار، فقد جاءت نظريته السياسية - عن قصد أو عن غير قصد - معارضة لهذا الرأي منكرة لصواب منطقه.

116

صفحة غير معروفة