109
بعبارة أخرى موجزة، يريد هيوم أن يقول إن «الوجوب» الذي تراه في الأحكام الخلقية لا يستمد من أحكام العقل بنوعيها؛ لأن أحكام العقل تقرر ما هو كائن، وإذن فهذا «الوجوب» إضافة ليست تستند إلى مقدمات عقلية.
وإذا لم يكن «العقل» وأحكامه مصدر أحكامنا الخلقية، فما مصدرها إذن؟ على أي أساس أحكم بأن هذا الفعل فضيلة وذلك الفعل رذيلة؟ إن هيوم ليصر على أساس يقيم عليه الأخلاق لأنه لا يقر الشكاك على وجهة نظرهم القائلة بألا أساس للأخلاق، وأن لكل فرد أن يفعل ما يشاء ويهوى؛ فلئن كان إنكاره أن يكون «العقل» سندا لأخلاق ومصدرا لها مما يؤيد الشكاك في وجهة نظرهم هذه، فهو لا يريد أن يترك الأمر عند هذا الإنكار حتى لا يعد واحدا منهم؛ فإذا لم يكن «العقل» عنده هو أساس الأخلاق فليلتمس هذا الأساس في جانب آخر من الطبيعة البشرية.
110
وحين يلتمس هيوم في الطبيعة البشرية أساسا للأخلاق، يحاول ألا يخرج عن حدود مذهبه بأن ليس ثمة عند الإنسان إلا «انطباعات حسية» و«أفكار» - و«الأفكار» عنده هي نفسها «الانطباعات الحسية» بعد زوال المؤثرات التي أحدثتها - ولذلك تراه يبحث عن أساس للأخلاق بحيث لا يتناقض مع مذهبه الرئيسي، وهذا لا يكون - بطبيعة الحال - إلا إذا كانت «أفكارنا» الخلقية - كغيرها من الأفكار - صورا لانطباعات حسية؛ ولكن ماذا عساها أن تكون تلك الحاسة التي تنطبع بمؤثر معين بحيث تكون صورة هذا الانطباع فيما بعد فكرة خلقية عن فضيلة أو رذيلة؟ إنها بالطبع لا تكون العين ولا الأذن ولا اللمس، وإذن فلا بد أن تكون لدينا «حاسة خلقية» يكون أمرها كأمر بقية الحواس في كونها تنطبع انطباعا مباشرا بمؤثرات معينة، فإذا انطباعاتها هذه - بعد زوال المؤثرات - هي نفسها «أفكارنا الخلقية»، إن لكل حاسة من حواسنا المعروفة مؤثرات خاصة بها، فللعين مؤثراتها المعينة التي لا تؤثر في السمع أو في اللمس، وللأذن مؤثراتها التي لا تؤثر في حاسة الإبصار أو الشم، وهكذا؛ وإذن فلهذه الحاسة التي يزعم هيوم أنها «حاسة خلقية» مؤثراتها الخاصة بها والتي لا شأن لسائر الحواس بها؛ أعني أن هنالك معطيات حسية من نوع فريد، فلا هو ضوء ولا هو صوت ولا رائحة ولا طعم، هو الذي يصح أن نقول عنه إنه معطيات الحاسة الخلقية المزعومة؛ ولنا أن نسأل: ما طبيعة هذه المعطيات؟ يقول هيوم في ذلك: «ليست حاسة الفضيلة عندنا إلا أن «يحس» الإنسان إحساسا من نوع فريد بالرضى حين يمعن الفكر في شخصية معينة؛ وهذا «الإحساس» نفسه هو ما نبديه من ثناء وإعجاب؛ إنه لا خطوة وراء هذه الخطوة؛ فلسنا نبحث بعدئذ عن علة هذا الرضى، كلا، ولا نحن نحكم بالفضيلة على تلك الشخصية استنتاجا من شعورنا إزاءها بالرضى؛ بل إن مجرد شعورنا بمثل هذا الرضى الذي هو من طراز فريد كهذا، هو نفسه شعورنا بصفة الفضيلة.»
111
ومعنى ذلك أن «الخير» أو «الشر» عند هيوم هو إحساس معين باللذة أو إحساس معين بالألم، على أن تكون اللذة أو الألم «من طراز فريد» هو الذي يجعلها لذة أو ألما من نوع «خلقي»، بحيث يستحيل علينا أن نصف مثل هذا الإحساس بغيره، أو أن نحلله إلى عناصر من شيء سواه؛ أي إن «الخير » و«الشر» عنده مقولتان أساسيتان في الطبيعة البشرية، أو قل هما لونان من الانطباعات الحسية التي تطبع فينا حاسة مستقلة بذاتها عن سائر الحواس، هي الحاسة الخلقية، ندرك بها ما هو خير وما هو شر، كما ندرك الألوان بالعين والأصوات بالأذن؛ فلقد نشاهد شجيرة من السنط وهي تكبر إلى جوار أمها ثم تكبر وتكبر حتى لتطغى بوجودها على وجود الأم فتمحوها محوا، لكن هذه المشاهدة هي مما تنطبع به العين ولا تنطبع به «الحاسة الخلقية»؛ إذ لا نحس إزاءها بالسخط على هذه الوليدة الناشئة وهي تقتل أمها؛ بل إننا قد نحس نوعا من الألم لزوال الشجرة الأم بفعل وليدتها، ولكنه لا يكون أبدا هو نفسه نوع الألم الذي نتألمه إذا ما شهدنا ولدا يقتل أباه من بني الإنسان، فهذا الألم الأخير من نوع «خلقي» على خلاف الألم الأول؛ نعم إن لذائذنا وآلامنا كثيرة منوعة، تنبعث فينا لأسباب كثيرة منوعة كذلك، لكن ما كل لذة وما كل ألم هو من النوع الخلقي الذي نحسه حين يكون الموقف خلقيا نشهد فيه فضيلة فيشيع في أنفسنا رضى، أو رذيلة فيشيع سخطا من طراز فريد؛ وهذه المواقف الخلقية لا بد أن تكون مما يتصل بأفعال الإنسان أو بخلاله أو بشخصيته.
لم يكن هيوم في مذهبه الأخلاقي من جماعة الشكاك؛ فهو - كما رأينا - إن يكن قد أنكر على «العقل» أن يكون مصدرا للأخلاق فقد حاول أن يجد لها مصدرا آخر يصلح أن يكون أساسا مكينا لبناء قوي متين؛ ولكي يزيد هذا البناء قوة لجأ كذلك إلى رأي له آخر في اطراد السلوك الإنساني (راجع القسم الثاني من الفصل الرابع في هذا الكتاب)؛ ذلك أنه لا يرى ما يراه الشكاك من حيث إن الأخلاق تتغير بتغير الأمم والعصور، تغيرا لا يجعل لها قواعد عامة إنسانية ثابتة؛ وهو في ذلك يقول إنه لولا أن الطبيعة الإنسانية نفسها فيها ما يميز بين الخير والشر لما جاز أن تكون هنالك ألفاظ بعينها يتفق الناس جميعا على معانيها، كالشرف والعار ، والسمو والدناءة، وما إلى ذلك من كلمات تراها في كل لغة على الإطلاق، وترى الناس على اتفاق في مدح جانب وذم آخر؛ فاطلب ممن شئت من أفراد الناس أن يحكم لك على شخص معين أو على فعل معين حكما لا يتأثر فيه إلا بمحض طبيعته، تجده في حكمه هذا على اتفاق تام مع أي إنسان آخر ينظر إلى الشخص نفسه أو الفعل نفسه في الظروف نفسها؛ وإذن فالمبادئ الأخلاقية حقيقة واقعة لا موضع فيها لاختلاف أو نزاع؛ ف «الانطباع» الذي تنطبع به حاسة الإنسان الخلقية في موقف أخلاقي معين، لا يتغير من فرد إلى فرد ما دامت الظروف المنطبعة على نفس الإنسان المدرك واحدة؛ وليس يعني هذا - بطبيعة الحال - أن يجيء الانطباع الخلقي في موقف ما متفقا دائما مع الصالح الشخصي، بل كثيرا ما ترى الإنسان يدرك لنفسه إدراكا واضحا أن كذا وكذا من المواقف أو من الأفعال خير، لكنه يحس في الوقت نفسه أنه لا يحقق صالحه الشخصي، وعندئذ يتوقف أمر اختياره لما هو خير أو لما هو في صالحه على تربيته وشخصيته؛ والمهم عندنا الآن هو أن نبرز هذه النقطة في مذهب هيوم الأخلاقي، وهي أن الأخلاقية لا تنبني على المصالح الشخصية، بل هي متوقفة على إدراك حسي مباشر من طراز خاص. نميز به بين الخير والشر؛ بل إن هيوم ليذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يقرر أن الحكم الأخلاقي على شخص أو فعل معين لا تتم جوانبه إلا إذا خلا الموقف خلوا تاما من أي صالح شخصي لمن يصدر الحكم.
112
هكذا يبني هيوم مذهبه الأخلاقي على فطرة مجبولة في طبيعة البشر، وهي الشعور المباشر بالرضى أو بالسخط إزاء الأشخاص والأفعال، دون أن يكون هذا الرضى أو السخط صادرا عن مصلحة شخصية ذاتية؛ ولهذا فلا يجوز أن نسلك هيوم من حيث مذهبه الأخلاقي في جماعة «المنفعة»؛ لأن المنفعة الناتجة عن فعل معين ليست هي على وجه الدقة مدار الحكم الأخلاقي على ذلك الفعل، بل مداره هو ما يبعثه في النفس من رضى أو سخط؛ ولماذا يرضى الإنسان أو يسخط؟ إنه يرضى أو يسخط لغير سبب وراء الموقف ذاته، إن الرضى والسخط إدراكان مباشران كإدراكنا للضوء أو للصوت؛ إنك لا تسأل إذ تفتح عينيك على زرع أخضر: لماذا أرى لونا أخضر؟ لا تسأل سؤالا كهذا، لأن رؤية اللون إدراك مباشر لمعطيات حسية تطبع حاسة البصر؛ وهكذا يكون انطباع الحاسة الخلقية بالرضى أو بالسخط إزاء الصفة الخلقية التي تكون في الشيء أو الفعل الذي نحكم عليه؛ على أنه مما ينبغي ملاحظته في مذهب هيوم أن هذه الحاسة الخلقية وحدها لا تكفي لتحريك صاحبها إلى العمل الخلقي؛ فلا يكفي أن أعلم - عن طريق هذه الحاسة الخاصة - أن الموقف الفلاني فضيلة لأدنو من فعله، أو أن الموقف الفلاني رذيلة لأنفر منه؛ بل الذي يدفع الإنسان لفعل هذا وترك ذلك حافز آخر ليس هو على وجه الدقة الصفة الخلقية في الشيء أو في الفعل، والتي من أجلها يراد عمل الفضيلة ونبذ الرذيلة؛ فالحافز الذي يحفز الإنسان إلى العمل، والصفة الخلقية المعينة التي تبرر العمل، شيئان مختلفان، الأول حالة نفسية بحثها من شأن علم النفس، والثانية وحدها هي التي تعنى بها النظرية الأخلاقية.
صفحة غير معروفة