وكذلك لو كان هنالك عدة حالات أو عدة انطباعات، مهما يكن بينها من تشابه، دون أن أزعم لها أنها في الحقيقة ذات واحدة، لما نشأت مشكلة الذاتية، لأن هذه المشكلة - كما قلنا - لا تكون إلا بقيام الوجهين معا: التعدد الذي يكون وحدة.
وإذا كانت لا الوحدة وحدها ولا التعدد وحده هو ما نعنيه حين نتحدث عن علاقة الذاتية، فلا بد أن تكون هذه «الذاتية» علاقة لا هي بهذا ولا هي بتلك؛ وإن يكن هذا مما يبدو للنظرة الأولى محالا؛ إذ لا بد لك من أحد اثنين فإما وحدة وإما تعدد، ولا وسط بين الطرفين، إلا إذا جاز لك أن تقول إن هنالك وسطا بين الوجود وعدم الوجود، ذلك لأنك حين تسلم لشيء ما بأنه موجود فلا محيص لك بعد ذلك عن أحد أمرين، فإما أن تفرض الوجود لشيء آخر سواه، ومن ثم تنشأ لك فكرة التعدد، أو أن تفرض أن ليس هنالك شيء آخر يتصف بالوجود؛ ومن ثم تنشأ فكرة الوحدة، ولا ثالث لهذين الفرضين.
31
لكن فكرة الزمن تحل لنا هذا الإشكال؛ لأن الزمن بمعناه الدقيق يقتضي التتابع؛ فإذا كان لدينا شيء غير متغير ثم قرنا به فكرة الزمن، صور لنا خيالنا أن هذا الشيء الثابت إنما يشارك الأشياء الأخرى في تغيرها، أي في تتابع حالاتها الذي تتضمنه فكرة الزمن؛ وعلى هذا فإذا ما ركزت انتباهي في شيء ثابت لا يتغير في ذاته، تركيزا يدوم فترة من الزمن، فإنني على الرغم من ثبات الشيء الذي وضعته موضع الانتباه، سأقارن الحالة في لحظة من لحظات تلك الفترة الزمنية، بالحالة في لحظة غيرها من لحظات تلك الفترة عينها، ومن ثم ينشأ لي في خيالي فكرة الوحدة التي لم تتغير على تعدد اللحظات؛ أو ربما نظرت في لحظة ثالثة إلى تينك اللحظتين المذكورتين، واضعا ثبات الشيء في اعتباري، فتنشأ لي فكرة التعدد رغم وحدانية الشيء؛ وهكذا يتوقف الأمر على وجهة نظرك فإذا وجهت النظر إلى واحدية الشيء خلال لحظات الزمن المتعاقبة، كانت لك الوحدة رغم الكثرة، وإذا وجهت النظر إلى تعدد اللحظات على الشيء الواحد، كانت لك الكثرة رغم الوحدة؛ وإذن فها هنا تتكون فكرة هي وسط بين الوحدة والتعدد، أو إن شئت فقل إنها وحدة أو كثرة حسب اختيارك لوجهة النظر، وتلك هي التي نسميها بفكرة «الذاتية»؛ وإذن ف «الذاتية» أو «الهوية» هي ثبات الشيء على حالة واحدة خلال تغير مفروض في لحظات الزمن.
32
فلننظر بعد ذلك إلى موقفنا إزاء الانطباعات المتشابهة التي تأتي إلينا على فترات قد تكون متباعدة، ومع ذلك نقضي بأنها ترتبط بذاتية واحدة؛ كأن أرى النهر - مثلا - ثم أراه بعد حين يقصر أو يطول، فأحكم بأن الانطباع الذي انطبعت به أول مرة، والانطباع الذي انطبعت به في المرة الثانية، هما في الحقيقة انطباع واحد، أو قل هما انطباعان بينهما ذاتية تربط بينهما في وحدة تجعل النهر الذي رأيته في المرة الأولى هو بعينه النهر الذي رأيته في المرة الثانية؛ فحقيقة الأمر هنا هي أنني إزاء انطباعين لا انطباع واحد، وبالتالي فقد تكون لدي عن النهر فكرتان لا فكرة واحدة، ولأن أجعلهما فكرة واحدة فهو خطأ يجاوز الواقع كما وقع.
لكن هذا الخطأ قمين أن يقع، فليس أدعى إلى أن ينظر الإنسان إلى إحدى أفكاره فيظنها فكرة سواها، مما قد يكون بين الفكرتين من رابطة في الخيال بحيث يسهل الانتقال من إحداهما إلى الأخرى؛ وإن صدق هذا على الروابط التي تربط الأفكار في الخيال بصفة عامة، فهو أصدق وأوضح حين تكون هذه الرابطة بين الفكرتين هي ما بينهما من تشابه؛ ذلك لأن الأمر في حالة التشابه بين الفكرتين لا يقتصر على أن الشبيه يستدعي شبيهه إلى الذهن، بل إن الأمر ليجاوز هذا، بحيث تكون العمليات العقلية في إحدى الحالتين شبيهة جدا بالعمليات العقلية في الحالة الأخرى؛ ولكي نوضح ذلك، نضرب لك مثلا برابطة أخرى غير رابطة التشابه، كالتجاور المكاني،
33
ففكرة حديقة معينة إذا وردت على خاطرك قد تدعو فكرة شخص معين قابلته فيها، بسبب التجاور أو الترابط المكاني بين الفكرتين؛ ها هنا فكرة تدعو فكرة أخرى إلى الحضور، لكن العملية العقلية في حالة تصور الفكرة الأولى تختلف عن العملية العقلية في حالة تصور الفكرة الثانية، بمقدار ما بين انطباع الحديقة وانطباع الشخص من اختلاف بعيد، وكذلك فإن ارتباط الفكرتين هنا لا يوقعني في الخطأ بحيث يمكن أن أقول إن الأولى هي بعينها الثانية؛ ولا كذلك إذا ما كانت الرابطة بين الفكرتين هي رابطة التشابه، وكلما اشتد الشبه بين الفكرتين اشتد احتمال الوقوع في الخطأ بحيث أظن أن الفكرة الثانية المستدعاة هي بعينها الفكرة الأولى الداعية؛ وهذه هي الحال حين تكون الفكرتان معا عن شيء بعينه كالشمس مثلا؛ فالفكرة الأولى عن الشمس في لحظة معينة، والفكرة الثانية عن الشمس أيضا ولكن في لحظة أخرى، فإذا ما استدعت الفكرة الأولى الفكرة الثانية، كان الأرجح أن يختلط علي الأمر بحيث أظن أن بين الفكرتين وحدة ذاتية؛ فالانتقال من فكرة إلى فكرة شديدة الشبه بها يكون بمثابة الانزلاق الهين السهل حتى ليتعذر على العقل أن يدرك أنه قد انتقل من فكرة إلى أخرى، ويخيل إليه أنه لم ينتقل، بل لبث مشغولا بفكرة واحدة لم يتزحزح عنها إلى سواها، ومن ثم ينشأ الاعتقاد بأن الشيء الخارجي الذي هو مبعث الفكرتين الشبيهتين، شيء له هوية واحدة، ثابت على حالة واحدة؛ وهكذا يختلط علينا الأمر بين ما هو في الحقيقة حالات متتابعة وبين توحيد هذه الحالات وجعلها حالة واحدة تصور شيئا واحدا.
34 (2-3) الذاكرة والخيال
صفحة غير معروفة